فقال الفرّاء فيه: " ولو رفع لمضيه في المعنى لكان صوابا. وقد أنشد نيه بعض بني أَسد رفعاً. فإذا أدخلت فيه (لا) اعتدل فيه الرفع والنصب؛ كقولك: إن الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك يسرّا، ترفع لدخول (لا) إذا كان المعنى ماضياً. والنصب مع دخول (لا) جائز ... والوجه الثالث في يفعل من (حتى) أن يكون مابعد (حتى) مستقبلاً، ولا تبال كيف كان الذي قبلها 0فتنصب، كقول الله عزّ وجل: " لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى" (طه/91)، و" فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي " (يوسف/80) وهو كثير في القرآن" (6).
ومن خلال ما قاله الفرّاء بشأن (حتى) ونصب المضارع بعدها، ومن خلال ما استشهد به على ذلك من القرآن الكريم والشعر، أستطيع أن أُوضح وأبين مذهبه في ذلك، على ثلاث حالات كما قال هو وكما قرره النحاة (1)، ولكن بإيضاح وإيجاز:
الحالة الأولى: إذا جاء قبلها فعل ماض، وبعدها فعل مضارعُ، ولكن معناه الماضي، أي بمعنى، مضارع في صيغته اللفظية، وماضٍ في معناه الى الحد الذي يجعل الفعل الماضي قبل (حتى) قريباً من معناه، وذلك بأن يكون الفعل الذي قبل (حتى) قابلاً للتطاول كما عبر عنه الفرّاء، أي قابل لأن يمتد فيتصل بالفعل المضارع بعد (حتى) من حيث زمنهما، فيكاد يكون زمنها هو المضي معاً. وفي هذه الحالة يجب نصب الفعل المضارع بعدها، وهذا يصدق على الشاهد الأول الذي اورده الفرّاء وهو قول امرئ القيس، فمعنى (تكلَّ)، (كلَّت) (2) عند الفرّاء. وأجاز الفرّاء أيضاً رفع المضارع بعد حتى في هذه الحالة إذا لم يكن هناك تطاول وامتداد في ما قيل (حتى) وهو الفعل الماضي وهذا ماعناه بقوله: "وليس ماقبل حتى يفعل يطول فارفع يفعل بعدها".
فأجاز أن أقول مثلاً: "جئت حتى اكون معك قريباً"، مع إجازته تلك أشار الى أن اكثر النحويين ينصبون الفعل بعد (حتى) وإن لم يكن هناك تطاول بين ماقبلها وما بعدها فهم ينصبونه مع التطاول او بدونه، فقال الفرّاء:"وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتى وإن كان ماضياً إذا كان لغير الأوّل، فيقولون: سرت حتى يدخلها زيد" ومعنى قوله (إذا كان لغير الأول) هو أن لاتكون هناك علاقة تربط بين ماقبلها وما بعدها، كأن يكون ماقبلها سبباً في ما بعدها، فإذا لم يكن كذلك ينصب الفعل بعدها (3).
وكذلك ينصب الفعل المضارع بعد (حتى) إذا كان زمنه مستقبلاً، ولا عبرة بعد ذلك بما يكون عليه زمن ما قبلها. واستشهد الفرّاء على ذلك بقوله تعالى:: " لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى" وقوله " فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي " وقال عنه الفرّاء بأنه كثير في القرآن الكريم.
الحالة الثانية: هي رفع المضارع بعد (حتى)، إذا كان ماقبلها فعلاً مضارعاً وما بعدها مضارع أيضاً، وأن يكون زمنهما خالصاً للحال، أي أن يكون واقعاً في زمن النطق بالكلام (1)، ومن ذلك قول العرب: انا جلوس فما نَشْعُرُ حتى يسقطُ حجرُ بيننا، فالفعلان ماقبل (حتى) ومابعدها مضارعان، وزمنهما يدلّ على الحال فقط ويمتدّ الى وقت النطق بالكلام، فوقت الشعور هو وقت سقوط الحجر نفسه فكلاهما حدث في الحال نفسها.
ومن ذلك عند الفرّاء قول الشاعر:
وقد خُضْن الهجير وعُمن حتى يفرّجُ ذاك عنهن المسَاءُ
الحالة الثالثة: جواز الرفع والنصب في الفعل المضارع بعد (حتى)؛ وذلك إذا كان ماقبلها ومابعدها فعلين مضارعين، ولكن زمنهما ليس للحال أو الاستقبال بل للمضي، فهما ماضيان في المعنى، مضارعان في اللفظ، وهما مما يتطاول معناهما، وهذا ماعناه الفرّاء بقوله: "وذلك أن يكون ماقبل حتى ومابعدها ماضيين، وهما مما يتطاولَ" أي ان معناهما لايحدث بتمامه دفعة واحدة بل يمتد الى وقت معين. ومن ذلك عند الفرّاء قول النابغة الذي مرّ:
وتذكر يوم الروع ألوانَ خيلنا من الطعن حتى نحسبَ الجَوْن أشقرا
إلا أن المعنى الذي يدلّ عليه الفعل بعد (حتى) يكون قد تحقق في زمن بعد زمن الفعل الذي قبلها، أي أن زمن الفعل بعدها يُعدُّ مستقبلاً بالنسبة لزمن الفعل قبلها فقط، وليس مستقبلاً كما هو الحال في دلالة الفعل المضارع على المستقبل فكلاهما قد تحقق في الماضي ولكن ما قبلها تحقق قبل الذي بعدها.
¥