فمعنى (ننكر) قد تحقق قبل الفعل (نحسبَ)، فهم قد أنكروا ألوان خيولهم بسبب كثرة الدماء عليها الناتجة من كثرة الطعن والقتال في الحرب الضروس، وهذا ماجعلهم يعدّون خيولهم ذات اللون الأسود أو الأبيض، شقرّاء، فالقتال والطعن والدماء هي سبب في ذلك؛ ولاشك في أن السبب يحصل قبل المُسبب، ومع ذلك فكلا المعنيين قد وقَعَ في الماضي، فاخبرنا الشاعر عن ذلك كله.
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر الآخر:
أحبّ لحِبّها السودان حتى أحِبَّ لحبها سُودَ الكلابِ
فهو بلاشك لم يحب سود الكلاب إلا بعد أن أحب من يقصدها، وكلاهما قد تحقق في الماضي، وهذا ماعناه الفرّاء بقوله فيه: "ولو رفع لمضيه في المعنى لكان صواباً". فهذه الحالى التي يجوز فيها رفع الفعل المضارع أو نصبه بعد (حتى) تكون قد جمعت بين حالة وجوب الرفع فيه وهي الحالة الثانية، وبين حالة وجوب نصبه في
الحالة الاولى فلما جمعت بين هذين الحالتين، جاز النصب والرفع في المضارع بعد (حتى) على حدٍّ سواء.
أما معنى (حتى) في هذه الحالات الثلاث، فخاضع لما يناسب كل حالة؛ فقد يكون الدلالة على التعليل، أو الدلالة على الغاية، أو يكون الدلالة على الاستثناء أي أن تكون بمعنى (إلا) في الإستثناء، ومن ذلك قول الرسول محمد (?) "لايستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولايستقيم قلبه، حتى يستقيم لسانه" (1).
فالرسول (?)، لم يرد الاستثناء لذاته، وإنما أراد قصر استقامة الانسان على استقامة اللسان ثم القلب، وذلك من خلال الاستثناء، فكان معنى قوله: لايستقيم ايمان عبد إلا إيمان من استقام لسانه وقلبه".
فهذه هي حالات الفعل المضارع مع (حتى) التي يجيءُ عليها في الكلام، كما يراها الفرّاء، أما حالات الإسم بعدها، فقال الفرّاء فيها: "فإن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلحُ عطف مابعد حتّى عليه أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شيء. فالحرف بعد حتى مخفوض في الوجهين؛ من ذلك قول الله تبارك وتعالى: " تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ" (الذاريات/ 43)، و" سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر/5) لايكونان إلا خفضاً؛ لأنه ليس قبلهما اسمُ يُعطفُ عليه مابعد حتى، فذُهب بحتى الى معنى (إلى). والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاء أو الخميس، خفضاً لاغير، وأضمن القوم حتى الأربعاء. والمعنى: أن أضمن القوم في الأربعاء؛ لأنّ الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكِل للقوم فيعطفَ عليهم" (2)، هذه هي الحالة الأولى في (حتى) مع الأسماء، وهي أن تكون حرف جرٍ بمعنى (إلى)، وذلك إذا لم يكن شيء قبلها يتصل بما بعدها، أو لا يصح عطف مابعدها على ماقبلها كما ذكر الفرّاء.
الحالة الثانية: (أن يكون ماقبل حتى من الأسماء عدداً يكثر ثم يأتي بعد ذلك الإسم الواحد أو القليل من الأسماء فإذا كان كذلك فانظر الى ما بعد حتى؛ فإن كانت الأسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ماقد وقع على ماقبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل حتى؛ من ذلك: قد ضُرب القوم حتى كبيُرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به (1)، في الوجهين قد أصابه الضرب. وذلك أنّ إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه، من ذلك أن تقول: أعتق عبيدك حتى أكَرِمهم عليك. تريد وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل مابعد حتى: الأيامُ تصام كلها. حتى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسَك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حَسُنَت فيها إلى" (2).
أي أن في هذه الحالة يكون الإسم بعد (حتى) له علاقة بما قبلها كأن يكون جزءاً منه أو قسماً أو أن يكون داخلاً فيه من جهة المعنى بحيث لو أتبعنا مابعدها على ماقبلها في الإعراب لصحَّ ذلك، ففي هذه الحالة، يجوز الخفض والاتباع فيما بعدها، فعلى الإتباع، نكون (حتى) حرف عطف، وعلى الخفض تكون حرفَ جر بمعنى (إلى).
وأشار الفرّاء، ضمن هذه الحالة، أيضاً الى أن (حتى) يمكن أن تكون حرف جر، ومعناها ليس معنى حرف الجر وإنما يكون معناه هو عطف مابعدها على ماقبلها، لأنه داخل في حكم ماقبلها، وذلك كما مثل له الفرّاء بـ (اعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك) إذا أردنا: "وأعتق اكرمهم عليك" أيضاً. وهذا ما عبّر عنه بقوله (وقد اصابه الفعل) أي ان حكم الفعل معناه واقعان على مابعد (حتى).
¥