يأتي العيد، أحياناً، ولا نحس به، ويأتي أحيانا ونحن شاعرون به، وبجماله، وإشراقة شمسه على الكون، وتغريد عصافيره الشجي، ليس لشيء إلا تبعاً لأمزجتنا وحالاتنا النفسية،هل يوم العيد يوم استثنائي بالنسبة لنا أم هو يوم عادي له رسمياته وبروتكولاته التي نكبل بها أنفسنا؟؟ نعم، كلنا نتباعد في الإجابات ولكن الحقيقة القابعة في أغوار ذواتنا أن العيد يومٌ يتوقف فيه قطار الحياة اللاهث، والراكض إلى اللاشيء إلا للهم والماديات، يتوقف قطار الحياة لنراجع أنفسنا ونحاسبها في كل شيء، وأوضح ماتكون المحاسبة في شأنها الاجتماعي، في علاقاتنا بمحيطنا الاجتماعي، نتصالح مع اختلافاتنا معه في هذا اليوم، ونقارب وجهات نظرنا المشرقة والمغربة معه؛ أملا ً في أن نعيش يوماً استثنائي، بكل المقايس، نفتح مجالسنا، ونقدم أحلى حلوياتنا، ونثر قهوتنا على ضيوفنا، ونجبرهم على شربها، وابتسامتنا لا تفارق شفاهنا، نغريهم بالأحاديث البسيطة التي يجيدها كل فرد منا، لا نتقعر، كلمات مختصرة للتحايا والترحيب: كل عام وأنتم طيبون، عيد مبارك، بنت حلال، كلمات خفيفة عذبة رشيقة تتصدر معجمنا اللغوي، نحاول جاهدين أن تعبر وجوهنا أيضاً عن بشاشة العيد المفقودة .......
يأتي العيد، بعد أيام لاكتها الشهور في دورتها الدائبة، ليذكرنا من تخلف عن عيدنا بمحض إرادته أو من غاب من غير حول منه أو قوة، طحنته المقادير في دورتها العارمة .... في العيد نفتش عنه .... نتحسس مكانه في عيدنا الفارط، نطاردُ ابتساماته التي نثرها أمامنا، نحاولُ اصطيادها، تصدمُنا كهرباء الواقع، يهتز الوجدان وينتفض إثر الصعقة؛ كردة فعلٍ أكيدة تدمع العينان دموعاً تغسل شيئاً من صدأ ِ قلوبنا، المهترئة التي تنسى سريعاً .... ولتبردَ وميض النار الذي أحدثته هذه الذكرى .... نرحل بعيداً عن صخب العيد ومعمعته، لنمسح دموعنا، ونطبب جراحنا، ونعودُ مهرولين إلى ذات الصخب والمعمعة ....
يأتي العيد، ليذكرنا: ذلك التوجع الذي أطلقه المتنبي قديماً، في ذات غربةٍ نفسية ومكانية، أواره مافتىء مشتعلاً حتى الساعة:
عيدٌ بأية حال عدت ياعيد * بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ
أما الأحبة فالبيداء دونهم * فليت دونك بيد دونها بيدُ
ونسائل سواكننا بخفوتٍ وذهولٍ متبلد: هل العيد هكذا من القديم؟؟!
يأتي العيد، ليذكرنا رغباتنا وأمنياتنا القديمة، هل حققناها ونحن كبار، وأعمارنا تركض أمامنا أم مازالت معلقة، وإذا تحققت هل لها نفس الطعم وذات النكهة العتيقة؟! نذكر حاجيات عيدنا التي لم تكتمل؛ لنفاخر بها الأقران ... نسمع صدى توسلاتنا للآباء طلباً لشراء هذا أو ذاك الذي لا يكتمل عيدنا إلا به ...
يأتي العيد، وينكأ جراحاً منسية، رمَّتْها السنون وإيقاع الزمن اللاهث وماء السلوان الذي ضمدناها به ...... كلُّ ذلك إلا أن العيد لذيذ ... لذيذ ... للغاية!!
* عيدية:
" جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن، على زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم ....
يوم السلام، والبشر والضحك، والوفاء، والإخاء وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير " ((الرافعي: وحي القلم)) عبدالوهاب بن حسن النجمي 27/ 9/1426هـ
[email protected]
أما أنت يا عبد الوهاب فما زلت أتابع أعمالك بشغف يحركه يقيني في عمق أفكارك
وما زلت أقرأ دون أن أعلق لأنني ما زلت أقرأ ومن ظل يقرأ فلم يزل مستمتعا
ومن طال استمتاعه تأخرت ردوده
مع محبتي ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ـ[عبدالرحمن السليمان]ــــــــ[16 - 10 - 2006, 04:55 ص]ـ
أخي الأستاذ عبدالوهاب،
لم يأت العيد بعد ... وأنا أتمنى لو يتأخر مجيئه! ولكن خاطرتك الجميلة والحزينة أعادت إلي ذكريات العيد، وليتها لم تفعل، فلقد صادف مقالك مني مزاجا عكرا وكآبة دائمة وألما شديدا يسلبني نعمة النوم، فذكرتني بالعيد وقد كنت متناسيه، فحسبتُ، وأفضى بي الحساب إلى أنه العيد الرابع والخمسون في الغربة التي لا ترحم، التي تجعل الغريب رهنَ الكآبة والحزن في أيام جعلها الله سبحانه وتعالى للفرح ... فإذا قدرت على الفرح بالعيد بين أهلك وذويك، فافرح كيفما اتفق ... افرح رغم ما تعتبره عادات سيئة، وليست بسيئة ...
أجل، يذكرنا العيد دائما بمن تخلف عن الفرح معنا. وذكرتني هذه الجملة افتقادي، ذات عيدٍ، أخا عراقيا لي، بحثت عنه أيام العيد ولم أجده، فقررت خلع باب شقته، وفعلت ذلك مع بعض الإخوان، ووجدناه ميتا منذ أيام، فأخذناه وغسلناه وصلينا عليه ودفناه في مقبرة المسلمين في بلجيكا لأن بلاده وقتها لم تكن راغبة فيه، ولو جثة متفسخة، كما أخبرنا السفير وقتها ...
العيد فرح لقوم، وحزن لآخرين، هذا ولم أتحدث عن فقراء المسلمين.
لم يعد شعر المتنبي (عيد بأية حال عدت يا عيد ... ) يكفي للتمثل بحزن هؤلاء، بل أصبح شديد الابتذال عند التمثل به لهم ... ما أحوجنا إلى زمان آخر، ومتنبي آخر، وعيد آخر!
وتقبل الله منا ومنكم، وكل عام وأنتم بخير.
عبدالرحمن السليمان.
¥