تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=49499&issueNo=199&secId=23

2008-07-10

أحمد خيري العمري

دشنت إحدى وكالات الأنباء العالمية، أسبوعها الأول من بثها الفضائي باللغة العربية ببرنامج طرح على الجمهور سؤالاً واحداً لإجراء الاستفتاء والحوار عليه. والسؤال هو: أيهما أولاً الدين أم الوطن؟

وصيغة السؤال طبعاً تحكمت بنوعية الأجوبة. وهذا هو ما يحدث مع نوعية الاستفتاء هذه، حيث يصاغ السؤال بطريقة تجعل المتلقي أمام مفترق طرق افتراضي عليه أن يأخذ أحدها، وقد يختار طريقاً لمجرد أنه لا يريد الطريق الآخر –لكنه أيضاً لا يريد الطريق الذي اختاره فعلاً، لكنه يرفضه «أقل» فحسب ..

وقد تكون بنية السؤال نفسها تحتوي على إشكالية داخلية، كما لو أنها تخير المتلقي، أو تجبره على المقارنة بين شيئين مختلفين تماماً، لا ينتميان إلى فصيلة واحدة، ولا توجد بينهما مقومات مشتركة للمقارنة .. ورغم ذلك، فإن وسائل الإعلام بأذرعها الأخطبوطية تضع لمسة التسطيح إياها وتجعل من المقارنة المستحيلة ممكنة، فقط من خلال طرح السؤال وجعله أمرا واقعا.

إلى هذا النمط من الأسئلة والمقارنات ذات الإشكاليات في بنيتها ينتمي هذا السؤال: أيهما أولاً، الدين أم الوطن؟

لا نستطيع هنا أن نتهم تلك القناة الفضائية بافتعال الأمر من أجل إشعال الفتنة، فالسؤال المغلوط صار مطروحاً فعلاً، ولقد أبلى الكتاب الليبراليون بلاءً حسناً في جعله موجوداً في مقالاتهم على صفحات الصحف وعبر المداخلات على الشبكة .. وتمكنوا فعلاً من جر «الإسلاميين» إلى خانة ضيقة إما بجعل بعضهم يرد على السؤال بالطريقة التي يريدها الليبراليون بالضبط (أي بأن يكون ردهم أن الدين يأتي أولاً، وهذا سيفتح باب مسألة ولائهم وإيمانهم بمفاهيم الوطن والمواطنة .. إلخ). أو بجعلهم يزعمون أن لا مشكلة على الإطلاق في هذا الأمر –ويحاولون تأصيل مفهوم المواطنة في الإسلام بطريقة سطحية جدا مثل استخدام أحاديث موضوعة من نوع «حب الوطن من الإيمان»!

والحقيقة أن الموقفين هما ما يتوقعهما المرء من أسئلة كهذه، سأحاول أن أتجنب الجواب على سؤال افتراضي كهذا، مع الإشارة إلى إيماني أن مفهوم «المواطنة» فعلاً غير موجود بشكل واضح في الإسلام، لكني أؤمن أيضاً بعدم وجود تعارض حقيقي بينهما.

لكن ليس هذا هو ما أريد أن أوضحه هنا على الإطلاق، بل أريد أن أتأمل في السؤال نفسه، في المفاضلة بين شيئين لا يمكن وضعهما أصلاً في مسألة واحدة ..

أتأمل في مفهوم «الوطن» أولاً – أي «وطن» بالضبط يقصده من يدير النقاش هنا؟ ألم يكونوا قد بشرونا قبل سنين أن العولمة قد ألغت المفهوم التقليدي للوطن؟ وأن الدول في عصر العولمة هي دول بلا سيادة؟ بل ألم يطلق على هذا العصر اسم «عصر أفول السيادة»؟ ألم تلغ ثورة الاتصالات وما نتج عنها الحدود التقليدية بين الدول؟ .. ألم يكن العالم كله قد تقلص إلى قرية كونية صغيرة؟

فلماذا رجعنا –الآن– بالذات في سياق الخيار مع الدين –إلى المربع الأول لمفهوم الوطن– وبالشكل الحديدي الذي يعود للقرن الـ19؟

لماذا؟ نغير صيغة السؤال قليلاً، ونوجهه إلى موظف في شركة من الشركات العابرة للقارات .. بالضبط موظف في ذراع محلي من الأذرع الإخطبوطية لتلك الشركات التي تمتد في كل مكان. ماذا لو سألناه، أو سألنا مديره الأعلى على قمة «الفرع المحلي» – أيهما أولاً: مصلحة «الشركة»، أم مصلحة «الوطن»؟ .. لا جدال أنهما سيردان أن لا تناقض هناك بين الأمرين، وأن تلك الشركات تقوم بتقليص البطالة وتشغل الشباب، لكن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها أنها تجعلهم مجرد موظفين عند شركة كبرى ومصلحتها أرباحها هي الأهم ولو على حساب الاقتصاد المحلي والمنتج المحلي وكل ما هو محلي.

بعض هذه الشركات العملاقة، التي ميزانيتها أكبر من ميزانيات بعض الدول الصغيرة، يمكنها أن تلتهم دولاً وأن تسقط أخرى في الديون، وحتى أن تشعل حروباً من أجل مصلحتها. إذا أجاب أي موظف عن هذا السؤال –أنه سيقدم مصلحة بلده على مصلحة الشركة التي يعمل فيها– فإن هذا سيطعن في مهنيته فوراً .. وبالتالي في أخلاقه المهنية، وهذا سيفتح باباً آخرَ من التساؤلات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير