تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما الفئة الأخرى، من أصحاب اللون الأسود، فهم الجهة المعاكسة «النيجاتيف» من الفئة الأولى، إنهم يصرون على أن لا شيء في هذا التاريخ سوى المظالم والأخطاء، لا عدل هناك ولا حضارة ولا بناء على الإطلاق -ليس سوى تاريخ مستمر من الظلم و «المظلومية». وهؤلاء ينقسمون بدورهم إلى قسمين- قسم ينتمي إلى «أهل القبلة» ورؤيتهم هنا للتاريخ هي رؤية طائفة نتجت أصلاً عن بعض هذه الأخطاء والمظالم، ومع الوقت، تخندقت داخل رؤيتها الطائفية الضيقة،

ولم تنجز تاريخاً أفضل في الوقت نفسه، كما لم تنحاز حقاً إلى قيم العدالة، لأنها كررت نفس الأخطاء والمظالم وربما بدرجات أكبر كلما سنحت لها «الفرصة التاريخية»، بالذات نجحت في تكرار الأخطاء وفشلت في إنجاز الإيجابيات التي تحققت في التاريخ الذي تهاجمه، القسم الثاني هو قسم لا ينتمي فعلياً إلى أهل القبلة، بل ينتمي إلى فئة بعض المستشرقين، وأتباعهم من المستغربين (وهم عموماً أسوأ من المستشرقين)، وهؤلاء عمدوا إلى اللون الأسود كعدسة لرؤية التاريخ من أجل نسف تجربة الإسلام ككل، واعتماداً على معطيات المظالم المتبادلة نفسها. والهدف من هذا النسف واضح: إنه إذا لم ينجح الإسلام في أي شيء وقتها، فإنه على الأغلب لن ينجح لاحقاً وفي أي وقت آخر.

ورغم ما يبدو من اختلاف كبير بين موقف «التبيضيين» و «التسويديين»، إلا أن هناك ما هو مشترك بينهما. بل إن وجود كل منهما أساسي لوجود الآخر. فسدنة التبييض، الذين يحاولون تقديس التاريخ وتنزيهه رغم «أنف» التاريخ، يجدون تبريراً لما يفعلون، عبر دفاعهم عن التاريخ وإيجابياته من هجمات زبانية التسويد، خصوصاً في مرحلة تخندق طائفي كالتي نمر بها، وهي هجمات تريد نسف كل شيء في التاريخ: الصالح والطالح منه، وهؤلاء الزبانية في الوقت نفسه، يعتمدون على مغالطات السدنة وتزويقهم الساذج وإنكارهم للحقائق، للترويج لرؤيتهم التسويدية .. ومع الموقفين، ليست الحقيقة «الموضوعية» وحدها الضحية، ولا «التجربة الإنسانية» التي لا تعرف الأبيض والأسود بهذه الحدة، ولكن أيضاً هناك «المتلقي» المحبط على مذبح التبييض والتسويد على حد سواء، إنه محبط مع التبيضيين لأن التاريخ المبيض لا يبدو بشرياً أبداً، لا يبدو أنه تاريخ من صنع البشر (الذين يشبهونه) بل هو من صنع الملائكة تقريباً، ما دام كان منزهاً عن الخطأ لهذه الدرجة .. وهذا محبط لأنه غير صالح للاقتداء، فالتجربة البشرية لا بد لها من أخطاء كي تكون بشرية، كي تكون «قدوة»، كي تكون قابلة للتصويب والتسديد: كما أن التاريخ المبيض عاجز تماماً عن الإجابة عن بعض الأسئلة: أسئلة مثل لماذا إذن حصل ما حصل؟ .. لماذا إذن حصل الانهيار إذا كانت التجربة بهذا الكمال؟ ..

وهو محبط مع التسويديين من باب أولى. إذا كان الجيل الأول (وهو هدف التسويديين الأول) قد تعامل بهذا الشكل، وهو الأقرب لعهد الوحي، فهل يمكن أن ينتج أي تعامل أفضل، بعد قرون متطاولة من عهد الوحي ..

والرؤية الموضوعية، البعيدة عن المُطلقين, الأبيض والأسود، هي التي تتخلص من هذه النتيجة في الحالتين، وهي الرؤية التي يعاديها السدنة والزبانية أكثر مما يعادون بعضهم بعضاً، فوجود كل منهما أساسي للآخر، أما الرؤية الموضوعية فستنفي الحاجة إلى وجودهم سوية. الرؤية الموضوعية ستفصل التجربة الإنسانية عن النص الإلهي، ولن تتعامل بمفهوم معصومية البشر (وهو مفهوم نظرت له فئة واعتبرته أصلاً من أصولها، بينما تعاملت فئة أخرى معه دون أن تسميه، عبر استبعاد الخطأ واحتماله وإمكانيته من بضعة آلاف من الجيل الأول) .. فالجيل الأول، بناة الحضارة، كانوا بشراً، بل إن أعظم ما فيهم أنهم كانوا بشراً، ولذلك فتجربتهم قابلة للاقتداء، وقابلة لأن تكون قد أخطأت هنا أو هناك، وقابلة أيضاً لأن تصحح وتسدد ..

الاستثمار في التاريخ، من أجل مستقبل أفضل، ممكن .. وسيكون استثماراً رابحاً وإيجابياً .. فقط لو ابتعدنا عن رؤية السدنة ورؤية الزبانية، وعن الأبيض والأسود باعتبارهما اللونين الوحيدين الموجودين في العالم ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من رسائل البريد وبلا أي تعديل.

ـ[نائل سيد أحمد]ــــــــ[11 - 07 - 2008, 10:31 م]ـ

الدين أولا أم الوطن: السؤال الستحيل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير