تلك المفردات إنما هي إنجاز حضاري باهر.
والحضارة - بهذا المعنى الواضح المحدَّد - هي حضارة واحدة, ليس لها ندٌّ يضارعها أو ينافسها. فليس من حضارة خلال القرون الثلاثة الأخيرة إلا هذه الحضارة التي نعيش الآن في ظلّها. وقد حاولت الأمم الأخرى اقتباسها أو تقليدها والاستفادة منها, فنجح بعضها لأنه اقتبس جوهرها وعرف سرّها فأصبح مُنتجا لها, ولكنه ظل يدور في فلكها, وأخفق آخرون لأنهم اكتفوا باستيراد مظاهرها ومنتوجاتها فاقتنعوا بنصيب المستهلكين المقلّدين.
فحين عزمت اليابان على الأخذ بأسباب النهضة لم تجد أمامها إلا هذه الحضارة, فأوفدت إليها من أبنائها اليابانيين مَن يبحثون في أعماقها عن مكنوناتها. وحين عادوا وصلوا حبال بلادهم بحبالها. وحين أراد محمد علي أن ينهض بمصر وجّه وجهه شطر هذه الحضارة فأوفد إليها البعوث واستقدم منها المعلمين, وأنشأ على غرار ما فيها المدارس والمعاهد. ولكن الأمر لم ينته إلى ما انتهت إليه اليابان, ولكل من الحالتين من الأسباب ما لايزال يحتاج إلى درس واستبطان. وكذلك فعل قياصرة روسيا حين أرادوا أن يُدخلوا بلادهم في العصر الحديث ذهبوا إلى هذه الحضارة ليقتبسوا منها بعض أنوارها. وليس الاتحاد السوفييتي واشتراكيته بحضارة أخرى, ولم يكن الصراع بينه وبين أوربا الغربية والولايات المتحدة صراع حضارتين مختلفتين, بل هما حضارة واحدة ذات مذهبين اقتصاديين فكريين مختلفين, تصارعا على النفوذ والمصالح, وهذا حديث آخر ليس هنا مجاله.
وحدة الحضارة ووهم الصراع
وبذلك لا يكون لمصطلح (صراع الحضارات) أيّ معنى, إذ ليس من حضارة أخرى قائمة تصطرع معها هذه الحضارة الحديثة. ولا يجوز أن يذهب الظن إلى أنها تصطرع مع حضارة تاريخية سابقة, غير قائمة الآن مثل الحضارة الإسلامية التي ينصبّ الكلام عليها وتكثر الكتابات عنها في هذا الصراع الذي أشار إليه صامويل هنتنجتون, وأجّجنا من ورائه أواره, ومع ذلك فإن الصراع قائم محتدم ولكن بمعنى آخر سنوضحه في ثنايا هذا المقال.
وقد يكون لمصطلح (حوار الحضارات) شيء من المعنى إذا قُصد منه تأثر كل حضارة بالحضارة أو الحضارات السابقة لها, فهو معنى (عمودي) يضرب في الماضي, وليس شعاراً (أفقيا) يضطرب في الحاضر. وهذا التأثر بين الحاضر والماضي أمر مؤكد ثابت لا تكون الحضارة حضارة إلا به. لأنها لا تنبت من فراغ, وإنما هي حلقة من سلسلة متصلة: أخذت مما قبلها وبنت فوقه وزادت عليه, ثم جاءت الحلقة التالية من الحضارة فأخذت من الحلقة السابقة أحدث ما أنتجته وأضافت إليه. وقد تتداخل حلقتان, فيدخل آخر الحلقة السابقة في أول الحلقة اللاحقة, إلى أن تنقطع الحلقة الأولى بحكم ما يصيبها من ضعف وجمود.
وكل ذلك يدلّ على أن الحضارة نتاجٌ تراكميٌّ شاركت فيه الحضارات السابقة, فهي إذن حضارة إنسانية عالمية, وإن اتّخذت أسماء مختلفة.
وقد قامت الحضارة الحديثة على أساس وطيد من الحضارتين الإغريقية والإسلامية: من المنهج الفكري الحرّ عند سقراط وأفلاطون وأرسطو, وعند ابن رشد والفارابي والرازي وابن خلدون, وأضراب أولئك وهؤلاء. ومن أجل هذا لا يجوز لمسلم أن يُحس غربة عن هذه الحضارة الحديثة - التي هي حضارة عالمية شاركت فيها حضارته وكان لأسلافه نصيب فيها, ولا أن يتردد في الأخذ بها, بالمعنى الذي وضّحته قبل قليل للحضارة, وبالمعنى الذي سيأتي بيانه.
صراع الثقافات
ولكن هذا التوضيح لمعنى الحضارة لايزال محتاجا إلى مزيد من الشرح والبيان بتوضيح مفهوم مصطلح آخر هو (الثقافة) وهو الجانب الآخر من الحياة الإنسانية, الجانب الروحي المعنوي القائم على العقيدة وعلى التراث الفكري واللغوي والأدبي والفني, وما ينجم عن كل ذلك من ثوابت ورواسب ونوازع ودوافع وروادع نفسانية وأخلاقية وسلوكية في العادات والتقاليد ونمط الحياة لدى الفرد ولدى الأمة بمجموعها, وهو ما يبني ما يسمّى بـ (الهوية) أو (الشخصية) لتلك الأمّة فيميزها عن غيرها من الأمم, وينتج عن ذلك التمايز الاختلاف بين الثقافات المتباينة في العصر الواحد وفي تراث الثقافات السابقة. وهو اختلاف قد ينشأ عنه (الحوار) بين أهل ثقافتين أو ثقافات متعددة, فيحدث تبادل التأثر الظاهر والخفيّ, بالاقتباس والتقليد والتدخل والتمازج, فتغنَى كل ثقافة من الأخرى إذا اقتبست ما تحتاج إليه لا
¥