ما يُفرض عليها, وإذا أخذت ما تريده لا ما يراد لها, وتمثّلته وهضمته وأصبح جزءا من كيانها.
وقد يكون هذا الاختلاف سببا أيضا في (الصراع) بين أهل الثقافات المختلفة. حين تستهوي القوة الغاشمة أهل الثقافة الأقوى فيرون أن ثقافتهم هي الأجدر بأن تسود غيرها, فيحاولون فرضها بوسائل متعددة على أهل ثقافة أو ثقافات أخرى - بعضها ذات تراث إنسانيّ عريض - فرضا ينتهي بتدمير كثير من مقوّمات تلك الثقافة أو الثقافات, وبذلك تُمْحى بالتدريج هوية أهلها, وتسلب شخصيتهم, حين تزعزع عقيدتهم, وتغزى لغتهم ويُنسى تراثهم فيضيع من نفوس الأجيال.
فـ (الصراع) و (الحوار) إنما هما بين أهل (الثقافات) التي تتعدد بتعدد الأمم وتختلف باختلافها, وليس بين (الحضارات) التي هي في عصرنا (حضارة) واحدة لا تتعدد ولا تتصارع.
غزو الثقافات
ولكن الحضارة - بالمعنى الذي شرحته - تُفرز بالضرورة ثقافتها الخاصة بها. وقد استهوت هذه الحضارة أهلها, فرأوا فيها أنها سيدة الكون, ورأوا أن بلادهم مركز الدنيا وما سواها فأطراف وحواش وهوامش. ونظروا إلى عوامل هذه الحضارة وأسبابها فوجدوها متمثلة في الأخذ بالعلم وبالعقل. فبالغوا في تقديس العلم حتى ألهوه, وذهبوا في الاعتماد على العقل مذهبا جعلوه وحده مصدر المعرفة ومقياسها, وشطّوا فيهما معا حتى عبدهما بعض علمائهم ومفكّريهم وفلاسفتهم, أو كادوا, وحتى أعلن فيلسوفهم الألماني المشهور موت الإله, وعدُّوا الإنسان صانع نفسه وتاريخه. وهكذا أصبح من خصائص هذه الثقافة (الحضارية!) أنها ثقافة فردية مادية.
وليس القصد هنا أن نفصّل القول في هذه الثقافة, وإنما سُقنا ما سقناه لنستدلّ به على القول إن من الطبيعي أن ينشأ الخلاف بين هذه الثقافة والثقافات الأخرى التي تنطوي على بعض خصائص هذه الثقافة ولكن بمقدار, وتمتاز منها بخصائص أخرى تكبح بعض ما فيها من الشطط والغلواء, وتجعلها ثقافة وسطا متوازنة. وكان من الطبيعي أيضا أن ينشأ بين أهل تلك الثقافة وأهل الثقافات الأخرى أنواع من الصراع تحاول فيه تلك الثقافة (الحضارية) بشتى الوسائل أن تسود وتصبح وحدها هي (الثقافة) وتحاول الثقافات الأخرى أن تقاوم هذا (الغزو!) وأن تحصّن نفسها دون اختراقها. وهكذا ينشَب الصراع بين الثقافات!
وكما تلد الحضارة ثقافتها فإن الثقافة أيضا تلد حضارتها, وربما كان هذا التوالد ثم التلازم هو الذي جعل بعض الباحثين يعدُّون (الحضارة) و (الثقافة) أمرا واحدا, ويرون أن اللفظين من الألفاظ المترادفة.
رسالة علماء الأمة
ومعنى هذا الذي قدّمناه أنه ليس للمثقفين العرب, ولا لغيرهم من العرب ومن سواهم, دور في التواصل بين الحضارات, كما هو العنوان الذي سُقناه, وإنما لهم أثر كبير في التواصل بين الثقافات وفي التعايش بين الشعوب. وأما هذه الحضارة الواحدة السائدة اليوم فللمثقفين العرب رسالة كبرى إزاءها هي دعوة الأمة إلى الأخذ بأسباب (الحضارة الحديثة) ودخول عصر (التحضير) و (التحديث) بالرجوع إلى المنهج الفكري وأساليب البحث العلمي, واعتماد العقل, والتحرر من الخرافات والأباطيل والأوهام, والثقة بكرامة الإنسان ومنزلته وقدرته, وهي كنوز أودعها الله في نفس الإنسان وحثّه على الاستفادة منها واستعمالها. و (الحضارة الحديثة) ذات منبع ومصبّ, أما منبعها: فمصادرها وأسبابها ومناهجها, وأما مصبّها فنتائجها ومظاهرها من التقدم العلمي والتكنولوجي وما نجم عنه من المنجزات الماديّة المختلفة. وبعيد ما بين المنبع والمصب للأمة التي تريد أن تدخل العصر وتعيش فيه, ولا تكتفي بأن تبقى خلفه أو خارجه.
وقد كثُرت كتابات المصلحين والمفكرين والأدباء في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين عن نهضة الأمة والوسائل المؤدية إليها ودور المثقفين العرب. وذهبوا في ذلك مذاهب ثلاثة: الأخذ بالحضارة الحديثة (الغربية) برمّتها ومعها ثقافتها لأنه لا سبيل إلى الفصل بينهما. أو الابتعاد عنها وطرحها جانباً والرجوع إلى الإسلام وإلى التراث واستلهامهما لإحياء ما كان من حلقة الحضارة الإسلامية. أما المذهب الثالث فيتمثل في حلّ توفيقيّ بالجمع بين المذهب الأول والثاني.
¥