تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وربما كان من المناسب أن نذكر هنا أن المذهب الأول لا يفرّق بين المنبع والمصب اللذين أشرنا إليهما, أي بين الأسباب والنتائج, ولذلك غامت الرؤية عند بعض القائلين به: فالأخذ بالنتائج وحدها كما هي, أي بمظاهر هذه الحضارة وإنجازاتها الجاهزة, يُبقي الأمة في حال تخلّف نفسي وعقليّ حين توهم نفسها بأنها دخلت في الحضارة الحديثة لمجرد أنها استعملت إنجازات هذه الحضارة ومصنوعاتها, بل لعلها تتفاخر بأنها تبني أعلى الصروح الشامخة, وتستعمل أحدث وسائل الاتصالات والمواصلات في البر والبحر والجو, وتلبس أفخر أنواع الملابس مما لم تنسج أيدي أبنائها, وسوى ذلك مما أشرنا إليه في هذه المقالة. وتظلّ الأمة أسيرة لما ينتجه غيرها: تستورده وتستهلكه, وتستهلك معه نفسها وأموالها وعقول أبنائها, وتدور حول نفسها في دائرة مُفرغة.

وأما الذهاب إلى منبع هذه الحضارة والأخذ بأسبابها من تحكيم العقل واستعمال المنهج التجريبي وأساليب البحث العلمي وتطبيق نتائج البحوث وتطويرها, مع الأخذ بأحدث ما وصلت إليه البحوث العلمية في العالم ومناهجها وتطبيقاتها, هذا الذهاب إلى المنبع هو الذي يحوّل الأمة من متخلفة حضاريا ومستهلكة ومستوردة لمظاهر الحضارة ونتائجها إلى أمة تصنع الحضارة وتنتجها وتصدّرها وتشارك غيرها في تطويرها والدخول بها في حلقة جديدة من حلقات الحضارة العالمية.

وليس صحيحا أن أخذ الحضارة الحديثة يوجب أخذ ثقافتها معها, على الوجه الذي وضّحناه قبل قليل. فهل ركوب الطائرات أو استعمال الإنترنت يستدعي بالضرورة التخلّي عن عقيدة المرء أو عن لغته أو عن تراثه أو عن نظرته إلى الكون والحياة وما بعدها? قد يستدعي التخلص من بعض القشور التي يُظن أنها من ثقافة الأمة وهي في الحقيقة أعراف وعادات ومظاهر شخصية واجتماعية كانت ملازمة لوسائل حضارة سابقة, وهي تتطور - بطبيعتها - مع تطور الزمن واختلاف البيئة, وتصبح بالية مع مرور الزمن, وتنشأ بدلا منها أعراف وعادات ومظاهر شخصية واجتماعية جديدة تلائم التطور النفسي والفكري والمادي والاجتماعي, ولا يكون في ذلك تخلّ عن جوهر ثقافة الأمة.

التقدم إلى الإسلام

أما موضوع (الرجوع) إلى الإسلام والتراث واستلهامهما ليكون ذلك وحده هو أساس بناء الحضارة, فأمر يحتاج إلى وقفة تأمل ومراجعة. ولعل أجمل ما يقال في هذه المناسبة أن الإسلام سابق أمامنا متقدم علينا. والتعبير الصحيح أن يقال: (التقدم) نحو الإسلام, وليس (الرجوع) إليه لأنه ليس خلفنا حتى نرجع إليه. والإسلام الحقيقي هو دين العقل والعلم والبحث (الاجتهاد) والتجربة والإنجاز والابتكار وتطوير حياة الإنسان والمجتمع. ومن هنا كان التطابق والتلاحم واضحين بين ما ذكرناه عن معنى (منبع) الحضارة وما يحثّ عليه الإسلام. ومن هنا أيضا يلتقي المذهب الأول مع المذهب الثاني اللذين أشرنا إليهما. وبذلك لا يكون من الصواب استعمال تعبيرات مثل (تغريب العقل) حين نأخذ بما ذكرناه عن مناحي (منبع) الحضارة.

وقد كثرت الكتابات عمّا في الإسلام من الصفات التي ذكرناها, وحسبنا هنا أن نشير إلى آية واحدة هي قوله تعالى وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. فهذه الآية الكريمة جعلت كل ما في السماوات وكل ما في الأرض ملكا للإنسان بتسخيرها له من الله عزّ وجل, وجعلها موضع تفكّر وتدبّر للإنسان دون أن يستقطع أو يستثني منها شيئا. ولماذا كان هذا التفكّر? هل هو رياضة عقلية محض يقوم بها الإنسان ويكتفي بها? أو عليه واجب أن ينقل هذا التفكّر في آيات الله إلى الإيمان به وبقدرته ثم إلى العمل والتطبيق. فيبحث فيما في السماوات وفيما في الأرض جميعا - دون استثناء - فيستغلّ ما يستطيع أن يستغله منه, ويذلّل ما يحتاج منه إلى تذليل, ويكشف أسرار مالا يزال يحتاج إلى اكتشاف, دون شرط ولا قيد. وتحقيق ذلك إنما يكون بمشيئة الله الذي أودع في العقل الإنساني قدرات لا تتفتّح ولا تُستعمل إلا في العصور والبيئات المتلاحقة التي يشاؤها سبحانه, فتتعاقب بذلك حلقات الحضارة المتصلة المتراكمة. وإن لم يفعل الإنسان ذلك يكون قد أخلّ بصريح منطوق الآية الكريمة من أن الله سخّر كل ذلك له, وإلا فما معنى التسخير? إن هذه الآية هي أصل الحضارة و (منبعها) , بما تتضمنه من آفاق فكرية نظرية ومن تحقيقات وإنجازات عملية.

وأن الأخذ بعلوم الفضاء والهندسة الوراثية ونظم المعلومات والاتصال والمنهج التجريبي والبحث العلمي, ليس تغريباً لفكرنا وإنما هو مما دعانا إليه ديننا.

أما التواصل فإنما يكون بين الثقافات. فإن لم تتصل إحدى الثقافات بثقافات عصرها المتعددة وبروائع الأعمال الفكرية والأدبية والفنية العالمية في العصور السابقة, واكتفت باجترار نفسها ذبلت وضعفت وقصّرت عن أن تؤدي رسالتها نحو نفسها ونحو الإنسانية. فالشأن هنا هو شأن التواصل والتبادل والتفاعل وليس مجرّد اتصال من جانب واحد. ولقد كانت الثقافة العربية من الجاهلية وخلال العصور الإسلامية ثقافة منفتحة على غيرها من الثقافات, أخذت منها دون تردد ولا شعور بالنقص, وأعطتها عطاء سخيّا دون قسر ولا تحايل أو إغراء. ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .... .

كما أن موضوع انتشار اللغة العربية وحروفها وثقافتها في أجزاء كثيرة من إفريقيا وفي أقطار آسيا الوسطى وبعض بلاد المشرق الإسلامي وأوربا, لايزال يحتاج إلى مزيد من الدراسة المنصفة لبيان وسائل هذا الانتشار ولبيان مدى التأثر والتأثير بينها وبين غيرها من ثقافات تلك البلاد ولغاتها.

ولا يجوز لمثقف عربيّ أو غير عربي أن يكتفي بما عنده وأن يدعو إلى الانغلاق الثقافي. فعند غيرنا كثير مما نحتاج إليه من روائع الآداب والفنون مما يضيف إلى فكرنا فكراً, ويفتح نفوسنا وعقولنا على آفاق رحبة وعوالم متجدّدة, فيكون - مع كنوزنا النفيسة من التراث اللغوي والنثري والشعري والفلسفي والموسيقيّ والفقهيّ - وسيلة للتواصل والتبادل بين الثقافات الإنسانية, وللتعارف والتفاهم بين الشعوب, وإشاعة روح التقارب والسلام العالمي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير