تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم إنّني كنت أتوقع أن أُرمى بتهمة التشكيك في اللجنة، وقد رميتني بها، ولا ألومك؛ فقد كنتُ قاسيًا على غير عادتي. فلك ولهم خالص اعتذاري، وما هم - والله - بمشكوك فيهم، غير أنّهم رأوا القصيدة رائعة ولم أرها كذلك.

دمت بأحسن حال ...

أخي الأحبّ / أبا خالد

تقول - متّعنا الله بحياتك -: " ... لا نصيحة تؤثر إذا كانت بقسوة ... "

أظنّ أنه لا بد من القسوة في بعض الأحيان، ولا بدّ أن تؤثّر إذا كان المنصوح واسع الصدر، متعاليًا على ذاته، شديد الثقة بنفسه.

وتقول: " ... إذن فعندما رشحنا أعمالك لتفوز في مسابقة الإبداع ونصوص الشهر كنا مدلسين؟ سبحان الله ... "

سؤالك الإنكاري هذا فخٌّ نصبتَه لي؛ فإن قلتُ: نعم، فقد اتهمتُ شعري بالرداءة، وإن قلتُ: لا، فقد مجّدتُ شعري، والشاعر لا يحكم على شعره.

وحتى لا أقع في الفخّ، سألتزم الصمت.

ثم تقول - حفظك الله -: " ... اختلاف أذواق الناس رحمة فلو كان الكل يحب الشعر العمودي لمات شعر التفعيلة في مهده , وهكذا ... "

هذا صحيح - أستاذي الفاضل - غير أنّ هناك ذوقًا عامًّا يسهل من خلاله التفريق بين الشعر المؤثّر والنظم البارد.

وتمضي قائلاً: " ... كان بإمكانك أن تفيدنا لو تخذت أسلوبا غير تهجمي في نقدك ... "

أعترف أنني كنتُ قاسيًا ومتهجّمًا، ومنكم العذر جميعًا.

وتختم بقولك: " ... أخي رؤبة / أشكر لك حسن خلقك ... "

وأنا أضمّ شكري إلى شكرك، فالحمد لله الذي جعلني أقع على شاعر حسن الخلق، وإلاّ لأمضّني الشعور القاسي بالذنب.

أدامك الله لنا يا أخانا الأحبّ ...

أيها الإخوة والأخوات جميعًا ..

أودّ أن أغتنم هذه الفرصة وأشاركك هذا التساؤل الذي شغلني كثيرًا:

هل هناك مرجع للذائقة؟! بمعنى هل لجمال النص الأدبي قواعد وقوانين تحكمه مثل النحو والصرف والعروض؟! هذه نقطة غاية في الأهمية في عملية النقد.

كلّنا يعرف علم البيان والبديع أو البلاغة العربية عموماً من محسنات لفظية ومعنوية وما إلى ذلك، مما يعدّ تقعيداً وتقنيناً للنصّ الأدبي ومرجعاً يُحكم من خلاله على النص؛ ولكن الأمر في نظري أكبر من ذلك، وأظن أن مردّه إلى مدى التأثير الذي يحدثه النصّ في المتلقي، ومع ذلك فهناك شبه إجماع على تميز بعض النصوص عن الأخرى، ولعلّ بعضكم قد قرأ عن الحوار الذي دار بين أحد الأمراء وأحد الرواة إذ أخذ الأول يسأله عن أغزل بيت وأفخر بيت وأصدق بيت و و و .. إلا أن رأي هذا الراوية غير مُلزم للآخرين، فهو يقول -مثلاً- إن أمدح بيت هو الذي مدح به جريرٌ أحد الخلفاء بقوله:

ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راحِ

في حين أنّ موروثنا الأدبي يعجّ يمئات الأبيات التي تتفوق كثيراً على هذا البيت، ومن منّا لا يعرف القصيدة التي تنسب إلى الفرزدق في مدح زين العابدين بن علي رحمهم الله جميعاً، والتي يقول في مطلعها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

كلّ بيت في هذه القصيدة -في نظري- يزن بيت جرير عشرات المرات.

ولكن لا بدّ من القول بأن الشعر البارد الخالي من الصور البليغة والمعاني الفخمة واضح للذائقة السليمة ولا يحتاج لكبير جهد في الحكم عليه، وعودوا إلى أشعار العلماء والفقهاء لتعلموا ما عنيته.

ويبرز هنا تساؤل: ما الشروط الواجب توافرها في الناقد؟! بمعنى هل يستطيع جميع الناس الحكم على الإبداع؟!

سأورد قصة ثم سأعلق:

جاء أحد الشعراء إلى أحد الرواة الكبار وقال له: إنني قلت شعراً وأراه بعيني جميلاً ولا يهمني رأيكم يا معاشر الرواة وعلماء اللغة، فقال الراوية - وأظنه خلف الأحمر -: يا ابن أخي .. أرأيت لو وجدت ديناراً واستجدته وقال لك الصيرفي إنه معطوب ولن يقبله الباعة، فهل ستنفعك استجادتك إياه؟!

لاحظ أن الراوية جعل عالم اللغة والمتبحر في الرواية بمثابة الصيرفي الذي يميز جيد المال من ردئيه.

إذن فلا بد للمبدع أن يعرض بضاعته على من يستطيع الحكم عليها ولا يأتي مثلاً إلى جماعة من المهتمين بالتجارة ويقول لهم ما رأيكم بهذه القصيدة فيقولون رائع جميل أحسنت ثم يمضي إلى سبيله.

أتذكر أنني قرأت أحد الأبيات فملك عليّ لبّي وأدهشني بروعته، فكنت كلّما قابلت أحداً أسمعته البيت، فمنهم من كاد يُصرع تأثراً به، ومنهم من فغر فاه اندهاشاً، ومنهم من استحسنه، ومنهم من سمعه ولم يعره أدنى اهتمام. فما الذي حدث هنا؟! الذي حدث أن الذي لم يعره أي اهمتمام شخص لا يعنيه الشعر في شئ ولا يستسيغه إطلاقاً، أما الباقون فمختلفون في تذوقهم حسب اختلافهم في الاهتمام بالشعر وحفظه وروايته.

وعموماً فالرأي لصاحبه وليس مُلزماً للآخر، وعندما يُسمعني شاعر قصيدة قد سهر الليل في نظمها ثم تكون أبرد من ليل كانون فمن المؤلم أن أصارحه بذلك ولكني إن لم أفعل ذلك فقد غششته، ولن أقول له أحسنت وأنا أعلم أنه أحسن بإخراجها من جوفه قبل أن تقتله رداءتها.

وكلنا يعلم أن النصّ الإبداعي أثير لدى صاحبه، هو به ضنين وعليه مشفق كأنه بضعة منه، وليس من السهل أبداً أن يتقبل استصغاره أو التقليل من شأنه، ويحتاج الأمر إلى التعالي على الذات وسلامة الصدر والتواضع وتوطين النفس على تقبل النقد، كما أن على كاتب النص الإبداعي أن يعلم أنه لن يرى عيوبه إلا في عيون الآخرين، فـ (المؤمن مرآة أخيه).

لكم جميعًا صادق ودّي ...

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير