وإن انشغلت فئات كثيرة في التنميق في الألفاظ، تطرفت حتى غدت الحركات والتشكيل مهمة على حساب المضمون، فأصبحنا نقرأ مجموع مفردات، مع قدرة على التصوير، ولكن الترابط غائب وعادة ما يستعين الكاتب بالتكرار حتى يتجاوز مشكلة تفكك النص.
ونعود لموضوع الغزل إذ يلجأ هنا الكاتب للالتفاف على الفكرة، وهي لا تتجاوز هذياناً بالأصل بأن يقول مثلا كنوع من الشاعرية " سكرت بخمر عينيك، حتى ضممت السحاب " عبارة في صورة جميلة ولكن شئنا أم أبينا هي صورة لفكرة واحدة وإن غيرنا في اللفظ فالفكرة ليست سامية، يقول غسان كنفاني في نقده لتدني مستوى الغناء في أواخر الستينيات تعليقا على كلمات أغنية " هالهوا شو قليل الذوق بيطيّر لي فستاني " فالهواء ليس هو قليل الذوق ولكن حتما المؤلف.
فالقولبة والالتفاف والتورية لا تعني أن الكاتب بريء، فإن كان بريئا فهو يهذي حتماً، وإن لم يكن بريئاً فهو مشتعِل فتنة، و يمارس الترف الفكري.
فيما يخص موضوع الألفاظ وتطور مداليلها – وهو موضوع ذو علاقة - لا أدري موقفكم، ولكني شخصياً أرى سوء استخدام لفظ معين فيمن يستخدمه وفيم يستخدمه،وليس في نفس اللفظ، فكثير من الكلمات العربية التي نظنها عامية هي بأصلها عربية فصيحة وبموازاة ألفاظ أخرى شائعة ولكن بعضها يعد سوقياً – ولا أدري لم؟!.
– والبعض الأخر يعد علمياً أو شرعياً، ولكم أن تنظروا في أي كتاب من كتب التراث العربي كالأغاني والعقد الفريد وعيون الأخبار والمستطرف وما إلى هنالك من مراجع لتجدوها زاخرة بالألفاظ، فالمجتمع أساء النية تجاه لفظ معين، فأصبح إن ورد في نص وإن كان ملتزماً أصبح النص وصاحبه سوقييْن، في حين أن المجتمع ذاته يستخدم كلمة " كشخ " مثلا ولا يعي معناها، ويستخدمها بمدلول آخر، وجهله بالمعنى الحقيقي لن يعفيَه من العقوبة، وهذه أيضا قاعدة فقهية، حيث أن كل من يتلفظ بها يرتكب القذف وهو لا يدري، ومع ذلك فهي من الكلمات التي استحسنها الناس.
وتغير المدلول هو ركون لواقع وعجز عن الرغبة في البحث والتفكير، وحتى الوصول لمرحلة العجز عن التصحيح والنهي عن المنكر، ولا ابلغ من عبارة " خطأ شائعٌ خير من صوابٍ مندثر"، ولا أدري من صاحب هذه القاعدة، كمؤشر على ما ذهبت اليه.
وليس من الصدف أن تجد على سبيل المثال في القرآن الكريم كلمة " وسطاً " لها مدلول مختلف عن المدلول المطروح على ألسنة كثير من الناس ومنهم مشايخ، وفي هذا الكلام إشارة إلى أن تغيير المدلول يدخل في باب التأويل في القرآن الكريم، وهو محرم بالإجماع، فوَسَط حسبما وردت في لسان العرب، وسط الشيء أفضله بفتح السين، ووردت في تفسير القرطبي، أيضا وسط الشيء أفضله، وهي ليست من شيء بين شيئين في شيء حسب قول القرطبي. وهنا إشارة إلى أفضليتنا كمسلمين، وفي واجبنا تجاه أفضليتنا فهي ليست رفاهية نتمتع بها وإنما هي تكليف من رب العالمين بأن نكون الأفضل، والأفضل في الكتابة أيضا.
وبالتالي، تغير المدلول ليس مزاجيا وإنْ تغيّرً المدلول فهو يدل على جهل، وأنوه إلى أن العربية لغة القرآن الكريم. وبالتالي سقت لفظه كمثال على قواعد.
كل ما سيق آنفا رد على تبريرات لسلوك دافعه شخصي وشخصي جداً ولسنا بحاجة إلى كل هذا العناء لإقناع الآخرين بإباحة ورقي النصوص، حسبنا أن نسميه هذياناً، وللمتلقي الحرية في التعامل مع الهذيان أو ردِّه.
هذا يقودنا للحديث عن السمو، فسمو اللفظ من سمو الفكرة وليس العكس، وسمو الفكرة يدفعك لقبول اللفظ وأخذه على عواهنه - وإن كان سوقيا - لأن المشكلة سواء في النص أو اللفظ هي في الغاية لدى الكاتب والمتلقي.
وفي نفس السياق، تأتي القصة كشكل من أشكال النصوص يقول الله عز وجل، نحن نقص عليك أحسن القصص، ويقول تعالى: إن هذا لهو القصص الحق، فما دون ذلك كله لا يندرج في " أحسن " ولا في " أحق " ما لم يكن مستوحىً من تعاليم ديننا الإسلامي، ولا يلوم أحد في استدعائي لنصوص قرآنية، ففي تحدي رب العالمين للمشركين في الإتيان بمثل القرآن أو بعشر سور أو بسورة من مثله، لم يكن المقصود فقط التدرج في التحدي وإظهار العجز، بل كانت حكمة ربانية بأن يوجه عقولهم وأذهانهم باتجاه القرآن الكريم، حيث أن من أراد محاكاة شيء ما وجب عليه التدقيق فيه، ومن باب أولى أن نمحص نحن وندقق ونلفت حواسنا كلها اليه.
محمود عبيدالله
ـ[إستقراء]ــــــــ[05 - 12 - 2009, 02:54 ص]ـ
جميل هذا الكلام ويحتاج إلى نقاش
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[14 - 12 - 2009, 03:03 م]ـ
مقال مميز يحتاج قراءة متأنية
ـ[جاردينيا]ــــــــ[14 - 12 - 2009, 11:23 م]ـ
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
الإعلام و الإعلان أفسدا الذائقة الجمالية لدى المتلقي و حتى لدى بعض النقاد فقد صاروا كمن يكذب الكذبة ثم يصدقها حتى سموا (قلة الأدب) أدبا راقيا
إن الإلتزام لا يلغي الفن و الجمال و لا ينبغي له , فالفن لايضر أبدا بالإلتزام بل هو أحد أركانه الأساسية.
إن مسألة التوازن هذه يجب أن يجتهد في تحقيقها كل أديب يحترم صنعته و يريد أن يرقى بفنه إلى العالمية ,و إن الإهتمام بأى المحورين يقودالأديب إلى الهاوية.
¥