فقيض لهذا الحفظ رجالاً نذروا حياتهم _جيلاً فجيلاً وعلى مدار مئات السنين_ لخدمة الوحي الجليل، يصدّون عنه بعلمهم أيَّ محاولة للتحريف أو التبديل، فيظلّ القرآن العظيم كلام الله الذي لا يشوبه شك ولا تحريف ولا تأويل.
ومن هؤلاء الذين سخرهم الله وخصهم وقيضهم بعنايته لهذه الخدمة الجليلة الشيخُ العلامةُ الكبير إبراهيم بن علي السمنوديّ متع الله به على طاعته وأحسن خاتمته, وقد بذلت جهدي لعرض شيء من سيرته العطرة؛ لتكون تذكارًا للمنتهي، ونبراسًا للمبتدي، ومحبة ووفاء لعالم من علماء الأمة الكبار، وأداء للواجب في نشر علمه، وبيان سيرته وبعض مناقبه، مما هو أقل الواجب جزاء ما قدمه؛ خدمة للقرآن وأهل القرآن، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، إنه سميع مجيب.
وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع عدد من الأسباب، من أهمها:
_ مكانة الشيخ إبراهيم السمنوديّ العلمية التي شهد بها القاصي والداني في علم القراءات، وقد غلب عليه التأليف في علم التحريرات, بما لا يستطيعه إلا من هو على شاكلته من العلماء الكبار؛ فهو ليس اسمًا عاديًا في محيط علم القراءة والإقراء, بل هو من آخر العمالقة الذين كتبوا في هذا العلم وأبدعوا وبرزوا فيه.
2_ جهوده الكبيرة في علم القراءات إقراءً وتأليفًا, فقد بلغت مصنفاته أكثر من ثلاثين مؤلفا منها المنظوم ومنها المنثور.
3_ أنّ جُلّ تلاميذه من كبار المقرئين المدققين والمتخصِّصين المحقِّقين, منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, غفر الله للأموات ونفع بالأحياء منهم طلاب العلم وطالبيه, وجمعنا بهم جميعا في جنات النعيم.
4_ بيان الجوانب المشرقة من سيرته, والتنويه بما له من الأعمال الجليلة, والأيادي البيضاء؛ لإيقاظ الهمم وحفزها, وتزويد المتخصص بشيء من تجربة هذا العالم الكبير وفضائله.
5_ أنَّ هذا الشيخ الكبير لم يأخذ حقه من التعريف به والترجمة له بين طلاب العلم وعامة المسلمين, فمع تفوقه وعلو كعبه في علم القراءات ورحلة الناس إليه من كل مكان للأخذ عنه والتلقي عليه, ومع سمات الغزارة والتنوع والشمول والأصالة التي طبعت شخصيته فاصطبغت بها آثاره وأعماله _ فإنّ ما صُرف له من عناية الباحثين وجهود الدارسين لا يكاد يفي بمعشار مايستحق, بل لا يكاد يُعرف في بلده سمنود وفي وطنه مصر إلا من خاصة المتخصصين، ناهيك عن خارج البلاد والوطن.
خطة البحث: قمت بتقسيم البحث بعد مقدمته إلى تمهيد وستة مباحث وخاتمة, وذلك على الترتيب التالي:
التمهيد: وقد ضمّنته نَبذة مختصرة عن تاريخ علم القراءات في مصر؛ ذلك أنّ الشيخ وليد بيئته التي نشأ وترعرع فيها؛ فكان من المناسب الإلمام بهذا الجانب قبل الدخول إلى المباحث التفصيلية.
المبحث الأول: التعريف بالعلامة السمنّوديّ؛ من خلال بيان اسمه ونسبه، ومولده ونشأته، وصفاته الشخصية، والعلمية.
المبحث الثاني: حياة العلامة السمنودي العلمية والعملية؛ مشيرًا فيه إلى رحلته في طلب العلم، والمناصب التي تولاها، وأبرز شيوخه وتلامذته، وثناء العلماء والمتخصصين عليه.
المبحث الثالث: مؤلفات العلامة السمنودي، وقد صنفتها إلى مؤلفاته في القراءات، ومؤلفاته في علوم التجويد، ومؤلفاته في التحريرات.
المبحث الرابع: أسانيد العلامة السمنودي في علم القراءات، مصنفًا لها حسب تصنيف القراءات.
المبحث الخامس: متفرقات، حيث ضمّ بعض الفوائد التي لا تشملها المباحث السابقة.
وقد كتبت هذه الترجمة المختصرة عن حياته وسيرته وجهوده في علم القراءات بما عرفته عنه من خلال تشرفي بالتلمذة والقراءة عليه, وما أمدّني به ابنه البار الأستاذ أسامة الفاتح من معلومات قيمة كان قد كتبها وقيدها, ثم بالرجوع إلى كتبه المخطوطة والمطبوعة, ومشافهة كبار تلاميذه ومن تلقى عنه وتتلمذ عليه.
وأخيراً:
تِيْهِي عَلَى الدَّهْرِ تِيْهِي ياسَمَنُّودُ
قَدْ حَلَّ فِيْكِ الْهُدَى والنُّورُ والْجُودُ
ثم أتقدم بالشكر لله تعالى إلى ما وفقني إليه من الكتابة عن هذا العَلَم الكبير الشيخ إبراهيم بن علي السمنوديّ، كما أتقدّم بالشكر الجزيل لمشايخي الكرام الذين تكرموا بقراءة هذا الكتاب، وتقريظه، وإبداء المشورة فيه، وأسأل الله لهم الصحة، والعون، والبركة في كل ما أوتوه.
وبعد؛ فإنّ الهمم لتخمد, وإنّ الرياح لتسكن, وإنّ النفوس ليعتريها الملل, وينتابها الفتور, وإنّ سِيرَ العظماء والعلماء لمن أعظم ما يُذْكِي الأُوار, ويبعث الهمم, ويرتقي بالعقول، ويوحي بالاقتداء.
وما هذه السطور إلا جهد المقل من الوفاء لعالم من علماء الأمة الكبار, فما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان فيها من خطأ أو قصور فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله, والله المستعان.
وآمل من كل قارئ لهذا الكتاب أن يمدني بملحوظاته؛ أو ما يعرفه عن الشيخ السمنودي؛ حتى يخرج الكتاب في طبعاته القادمة بصورة أكمل وأجمل، والحمد لله أولاً وآخراً.
د. عبدالله بن محمد بن سليمان الجارالله
المدينة المنورة 20/ 6/1429هـ
¥