وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية .. سوَّغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن، أو أكثره من هذا الباب؛ فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية، لا من باب العملية؛ لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار، كما قد تقع في مسائل العمل ([2]).
ويقول في موضع آخر: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يُكفَّر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
فأما التفريق بين نوع وتسميته "مسائل الأصول" وبين نوع آخر وتسميته "مسائل الفروع" .. فهذا الفرق ليس له أصل؛ لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصول التي يكفَّر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل؛ قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث .. هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكِر لها يكفُر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده،
أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذيقال لأهله: "إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني الله عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين! فأمر الله البَرَّ بردِّ ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتُك يا رب؛ فغفر الله له"، فهذا شكَّ في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع ([3]).
وذكر ابن تيمية قاعدة مهمة في الحكم على المجتهدين في مسائل الأصول والفروع، فقال -رحمه الله- بعد كلامٍ له:
ونحن نذكر "قاعدة جامعة" في هذا الباب لسائر الأمة؛ فنقول:
لابدَّ أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات ليتكلم
بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب
وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات؛ فيتولد فساد عظيم.
فنقول: إن الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول،
ونحن نذكر أصولاً جامعة نافعة:
([1]) المرجع السابق (11/ 336).
([2]) المرجع السابق (6/ 56 - 60).
([3]) المرجع السابق (23/ 346، 347).
ـ[خلوصي]ــــــــ[18 Oct 2008, 04:00 ص]ـ
..............
.....
الأصل الأول:
أنه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق
في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه
فلم يصل إلى الحق؛ بل قال ما اعتقَد أنه هو الحق في نفس الأمر؛ ولم يكن هو الحق في نفس الأمر: هل يستحق أن يعاقب أم لا؟
هذا أصل المسألة.
¥