إلى أن قال: وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جَعْلُ الدين قسمين؛ أصولاً وفروعًا .. لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين: إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.
والذين فرقوا بين الأصول الفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون: هذا قطعي، وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيًّا وظنيًّا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكمشرعي يتعلق بالشرع، وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع ([5])
.
ويبين -رحمه الله- أن المجتهدين المتأولين في أحكام الدين غايةُ الحكم عليهم أنهم مخطئون؛ حيث يقول:
وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان؛ متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حِلَّ أمور، واعتقد الآخر تحريمها؛ كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة .. وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، .......
.
وإذا كان هذا في الباغي الذي يخرج على الإمام ونحوه إذا كان متأولاً، فكيف بمن اجتهد في أمر من أمور الدين فقال فيه باجتهاده، فهو وإن أخطأ لا إثم عليه كما تقدم؛ سواء كان ذلك في الأحكام أو في العقائد.
وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول: ..................
...........................
.............................. ............ ([1]) يريد ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عباس م، وفيه الخبر عن نزول ملك من السماء وقوله: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يُؤْتَهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيتَه"، مسلم (806)، في صلاة المسافرين.
([2]) مجموع الفتاوى (3/ 317، 318).
([3]) المرجع السابق (28/ 489).
([4]) المرجع السابق (3/ 348، 349).
([5]) المرجع السابق (13/ 123 - 126).
([6]) المرجع السابق (35/ 75).
ـ[خلوصي]ــــــــ[23 Oct 2008, 08:59 م]ـ
وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول:
وكان ابن فورك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكرامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كفَّرهم عند السلطان، ولم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفَّره، فإنه هو ظلم نفسه!
وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول؛ فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كلٌّ منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع فيرد بدعة ببدعة وباطلاً بباطل ([1])!!
وفي موضع آخر يبين -رحمه الله- أن الذي يدافع عن العلماء ويدفع عنهم تكفير الغلاة فهو محسن، وإن اعتقد وقوع أولئك العلماء المحكوم عليهم بالكفر غير المتعمد، فإن مجرد حمايتهم ونصرهم غرض شرعي حسن، فيقول: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أنَّ دافع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر؛ حماية له ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر
¥