ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلّى: تحديد مكان الإستواء. أولا استوى تعني اعتل وأستقام وتهيّأ. ينزل جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتدلّى إليه ويصحبه بعد أن تهيّأ لذلك من الأفق الأعلى (وليس العالي) وهذا حتى يليق بمقام النبوة وهذا فيه ثناء على جبريل عليه السلام أنه استعدّ للأمر قبل أن يأتي ويقوم بمهمته وفيه تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم لأن مقام الشخصية يستدعي زيادة التهيأة والإستعداد وحسنه واستعد لذلك من الأفق الأعلى (استعد جبريل عليه السلام للأمر قبل أن ينزل وفيه إشارة إلى عِظم المهمة وعِظم الزائر وهو الرسول صلى الله عليه وسلم).
هذه الآية في سورة النجم ذكرت (الأفق الأعلى) وفي آية سورة التكوير ذكر (الأفق المبين) فما الفرق بينهما؟
في آية سورة النجم يُراد بالآيات والرحلة العروج إلى الأفق الأعلى وهو المكان الذي سيعرُج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. أما في آية سورة التكوير (ولقد رآه بالأفق المبين) فالأفق المبين تدل على الإبانة الواضحة وهي مناسبة لما تبعها في قوله تعالى (وما هو على الغيب بضنين) على أنه صلى الله عليه وسلم ليس بضنين ولا بخيل فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين ليس بضنين والأفق مبين أيضاً.
ثم دنا فتدلّى * فكان قاب قوسين أو أدنى: ثم دنا فتدلّى فيها تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم لأن الدنو غير التدلي فالدنو هو القرب من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل وغيره أما التدلّي فلا يكون إلا من أعلى لأسفل. ومعنى أن جبريل عليه السلام تدلّى للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا في غاية التكريم له. العرب تقول في القرُب أشياء كثيرة كناية عن القرب فلماذا اختار سبحانه قاب قوسين أو أدنى؟ اختيار قاب قوسين تدل على القرب والقوس هي في حد ذاتها لا بد أن تكون قوية شديدة والوتر لا بد أن يكون قوياً شديداً والرامي ينبغي أن يكون قوياً مُسدداً فالقوس يحتاج إلى إحكام في التسديد والإنطلاق وهذه كلها عناصر الرحلة وقد سبق قوله تعالى (شديد القوى * ذو مِرّة فاستوى) والقوس شديد ويستعمله قوي شديد والرحلة وهي الإنطلاق لذا جاء استعمال قاب قوسين أو أدنى.
فأوحى إلى عبده ما أوحى: نفس الكلام الذي ورد في أسرى بعبده ينطبق على ورود كلمة عبده هنا في هذه الآية. تستخدم كلمة (عبد) على مجموع الجسد والروح وهنا إثبات على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وإلآّ فأين المعجزة! ولو كان بالروح فقط لما كذّبه الكفار فهم عرفوا وتأكدوا أن الرحلة تمّت بالروح والجسد معاً.
ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى: ما اللمسة البيانية في اختيار كلمة (المراء)؟ ورد قبل هذه الآية قوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) اختيار لفظ الفؤاد هو من التفؤد والتوقّد (يقال فأد اللحم بمعنى شواه) اختار الفؤاد لأن فؤاده صلى الله عليه وسلم متوقّد ليرى كل ما حوله. أما في قوله (ما كذب الفؤاد ما رأى) وهو القلب المتوقّد الحار لم يقل لبصره أنه واهم فيما يرى، فؤاده صلى الله عليه وسلم صدّق بصره يعني ما رأيته ببصرك لم يشكك به الفؤاد على توقّده فقد صدق الفؤاد البصر وما يراه البصر هو حق صادق.
المرية: فيها شك. لم يقل سبحانه أفتجادلونه إنما قال أفتمارونه لأن المِرية تختلف عن الجدال، فالكفار كانوا يشككون في الرواية وليس في الأفكار كما في قوله (إن الذين يمارونك في الساعة) (يمارون في الساعة) أي يجادلون في الساعة لأن لا أحد رآها، أما الرؤية فهي ليست موضوع نقاش في هذه السورة (أفتمارونه على ما يرى) أي لا يُمارى على رؤيته صلى الله عليه وسلم والملاحظ هنا استخدام حرف (على) أما في الآية السابقة استخدم الحرف (في).
ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنّة المأوى: استخدم كلمة نزلة وليس كلمة (مرّة) لأن النزلة من النزول فقال ولقد رآه نزلة أخرى أي عند نزوله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم صعد إلى مكان أعلى من الذي وصل إليه جبريل وفي رحلة عودته صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عند نزوله وهذا مصداق الحديث أن جبريل عليه السلام قال للرسول صلى الله عليه وسلم تقدم وقال لو تقدمتُ لاحترقت.
اختيار سدرة المنتهى: المنتهى هي آخر شيء وآخر نقطة ومكانها عند جنّة المأوى.
إذ يغشى السدرة ما يغشى: وفي هذه الآية أمور لا نعرفها نحن فالله أعلم بمجريات هذه الرحلة وما فيها وما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وما في السدرة وما يغشاها.
ما زاغ البصر وما طغى: زاغ من الزيغان وهو الذهاب يميناً وشمالاً أما الطغيان فهو مجاوزة الحدّ والقدر والتطلع إلى ما ليس له. بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم في رحلته ما مال بصره ولا جاوز قدره بل وقف في المكان الذي خُصص له وفي هذا مدح للرسول صلى الله عليه وسلم فقد وقف بصره في المكان المحدد له مع أن المكان يستدعي أخذ البصر والإلتفات. وقد سبق أن نفى الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال والغواية في الأرض وكذلك نفى عنه أن يكون زاغ بصره أو طغى في السموات فهو لم يتجاوز لا في الأرض ولا في السماء فسبحان الله تعالى وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد رأى من آيات ربه الكبرى: (مِن) يقال لها التبعضيّة. لم يرى كل شيء لكن الرحلة كان لها منهجاً معيناً وجاء بالكبرى فيه تكريم آخر للرسول عليه الصلاة والسلام أنه رأى بعض الآيات الكبرى. والسورة كلها فيها تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم وهذه الآية مبنية على الإبهام وهذا الإبهام للتعظيم. وأُورد ما فسّره الشيخ الشعراوي رحمه الله فهو في خواطره يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الآية الكبرى والله أعلم بها هذا.