الهوات وتعرضه لخطر المواشي السالبة والابقار الناطحة وما يخلفه كل ذلك من أوجاع في القدمين وشروخ وكدمات في الجبهة والرأس.
انتقل البردوني من قريته الي قرية أخري في المنطقة اسمها 'المحلة' ليكون تحت رعاية أخته 'ظبية' وفي 'معلامة' تلك القرية أكمل حفظ القرآن، ثم توجه الي مدينة ذمار وكان كل من حوله يخططون له ليتأهل في مساجد ذمار لما ينفع انسانا في مثل حالته يناسبه أن يكون مقرئا أو إماما لجامع. ولكن الفتي البائس كان يتميز أيضا بذكاء حاد الي جانب ظرف وفكاهة وسخرية لاذعة .. كانت دائما تلفت إليه الانظار وفي المدرسة الشمسية أهم معالم ذمار في ذلك الوقت وإحدي أهم مدارس العلم التقليدية في اليمن درس البردوني القرآن مجودا ودرس النحو والبلاغة والفقه وأصول الدين وبدأ الشعر هاجيا يصطدم بالناس والسلطة بحدة عنف واحتجاج تقوده في النهاية إلي السجن الذي حل فيه تسعة أشهر عقب فشل الحركة الدستورية سنة 1948م وبدخوله السجن ثبت البردوني رغبته الأولي في أن يختلف ويغاير ويتميز مبدعا ومثقفا وقبل ذلك مواطنا حقيقيا بيد أن التميز الحقيقي سيبدأ بعد رحيله من ذمار إلي العاصمة صنعاء.
بداية من العام 1949م عام رحيل البردوني من ذمار إلي صنعاء عقب خروجه من سجن الإمام وحتي نهاية أغسطس من عام 1999م يوم رحيل جسده عن الدنيا.
شكل البردوني حالة خاصة في المشهد الابداعي والثقافي في اليمن خاصة والعربي إلي حد كبير وان كانت الجغرافيا قد ظلمته كثيرا كما ظلمت غيره من المبدعين اليمنيين فهو لم يكن ابن القاهرة أو بغداد أو بيروت أو دمشق وهي مراكز الثقافة الاكثر نشاطا في دول المركز المستأثرة بالاعلام والحركة الابداعية والثقافة الاكثر نشاطا وتماسا مع العالم الواسع ولكنه ابن اليمن البلد الاكثر هامشية والتي دخلت القرن العشرين وهي تجهل عن العالم كل شيء وخرجت منه وقد عرفت عن العالم أشياء كثيرة دون أن يعرف العالم عنها إلا النذر اليسير.
قلة من أدباء اليمن تعد بالكاد علي أصابع اليد الواحدة كسرت حاجز العزلة اليمنية ووصلت بأصواتها إلي العالم اقصد العالم العربي فقط إلا أن البردوني يتميز من بين هذه القلة بكونه لم يصل علي جناحين من ابداع وسلطة بل وصل علي جناحين من ابداع خالص وثقافة واسعة وحضور قل مثيله.
قطع البردوني الشوط الاول من رحلة نجاحه خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي يناضل علي أكثر من صعيد .. وكان في صراعه ذاك يحاول اكتشاف ذاته واكتشاف العالم من حوله متلفتا في كل اتجاه هاربا من غربته وعزلته التي تفرضها عليه ظروفه الخاصة 'العمي والفقر' شاعرا انه منذور لدور كبير يلعبه اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ايضا ومعني هذا تحقيق وجود انساني أفضل من الوجود الذي عادة ما كان يؤول اليه أمثاله في ظروف مثل ظروف اليمن آنذاك.
وكان كل ذلك يتجلي في قصائده قلقا وتأملا وتساؤلا وتبرما بأوضاع البؤس والحرمان التي يعيشانها معا هو والوطن.
الشاعر الأعمي
فعن بؤسه وحرمانه يقول في احدي نفثاته الحادة:
يا حياتي ويا حياتي إلي كم
أحتسي من يديك صابا وعلقم
لم أجد ما أريد حتي المعاصي
أحرام علي حتي جهنم
وعن وطنه يقول من قصيدة كتبها بمناسبة أحد الأعياد:
يا عيد حدث شعبك الظامي متي
يروي؟ وهل يروي؟ وكيف المورد
فيم السكوت ونصف شعبك هاهنا
يشقي ونصف في الشعوب مشرد
يا عيد هذا الشعب ذل نبوغه
وطوي نوابغه السكون الأسود
ولذلك راح كما قلنا يناضل علي أكثر من صعيد:
ويؤهل نفسه علميا بالمعارف المختلفة 'حتي حاز علي أعلي شهادة تمنحها مدارس اليمن آنذاك 'اجازة تسمي الغاية' تمنحها دار العلوم في صنعاء بعد أن انجز دراسة علوم القرآن والبلاغة والصرف والنحو والمنطق وعلوم الكلام والفقه والتاريخ.
ويؤمن مصادر رزقه مدرسا لأبناء البيوت الكبيرة ثم مدرسا في دار العلوم بعد تخرجه منها .. ويشارك في الحياة الثقافية والسجالات الادبية والتهامس الثوري ويرسخ أقدامه يوما بعد يوم مبدعا عملاقا ومفكرا كبيرا منذ البداية من خلال كتاباته الكثيرة التي تذاع في الناس .. عبر الاذاعة والصحف والمحافل والملتقيات.
ويسعي للتأسيس لحياة أسرية 'توج مسعاه بالزواج من زوجته الاولي سنة 1957م
¥