ولم يرفع العقد الخمسيني اشرعته إلا وقد صار الشاعر الأعمي حديث كل الناس وصار الإمام أحمد حميد الدين .. يفتخر انه نبغ في زمانه!
أما عقد الستينيات فقد استهله باصدار أول دواوينه 'من أرض بلقيس' سنة 1961م وكان صدوره حدثا هاما لانه صدر عن المجلس الاعلي للفنون والآداب في مصر ضمن سلسلة الالف كتاب وقد اشرف علي اصداره العقاد ويوسف السباعي وعلي الجندي الذي قدم له مؤكدا علي تفرد البردوني 'بمبانيه ومعانيه' منذ البداية فهو ليس ظلا لأحد ولا صورة من أحد ولعل الصدي الذي احدثه صدور هذا الديوان قد ساعد الي جانب عوامل شخصية وذاتية سبق التطرق اليها وعوامل سياسية واجتماعية ناتجة عن قيام الثورة اليمنية سنة 1962م والحروب التي اعقبتها والتحولات الاجتماعية والثقافية التي صاحبت كل ذلك في احداث انقلابات كبري في وعي البردوني بتجربته الشعرية واختياراته ومواقفه وزوايا رؤيته للذات والواقع والعالم.
بعد الثورة نشط البردوني في تطوير ادواته وإلي جانب ذلك بذل جهدا شعريا كبيرا احتفاء بالثورة في البداية ثم هجاء مرا لانحرافاتها وتمظهرات تلك الانحرافات وهو ما يحفل به ديواناه 'في طريق الفجر' و'مدينة الغد' وهذا الموقف نفسه سيتحول الي سخرية مرة خلال عقد السبعينيات الذي بدأه البردوني بخروجه المدوي الي ساحة المشهد الثقافي والابداعي العربي من خلال الضجة التي احدثتها قصيدته 'أبو تمام وعروبة اليوم' التي ألقاها في مهرجان أبي تمام الذي اقيم في مدينة الموصل العراقية سنة 1971م.
حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
ماذا احدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا سبب
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
الذات مرجعا
بعد مهرجان الموصل صار البردوني حاضرا باستمرار في أغلب مهرجانات الشعر والثقافة العربية. وكانت تلك نوافذ جديدة لقلبه وعقله فقد كانت المثاقفات والاحتكاكات بمختلف المبدعين العرب والاجانب والاطلاع علي التجارب طازجة دافعا أكبر للبردوني الي تجديد أدواته. ولكن البردوني الذي استطاع بذاته تجاوز واقعه البائس دخل في مفارقة مع ذلك الواقع 'واقع الشعب سياسيا واجتماعيا وثقافيا'
الذي لم يستطع تجاوز تردياته وتخلفه وانحرافاته .. الامر الذي جعل الشاعر يقدم ذاته مرجعا في أغلب الاحيان لرؤية كل ما حوله وهذا يفسر أكثر أسباب صراعاته التي احتدمت في تلك الفترة مع السلطة من جهة ومع مثقفين ومبدعين يمنيين من جهة أخري اختلفوا معه في الشكل الشعري والوعي بوظيفة الشعر كما اختلفوا معه في مفاهيم ابداعية ونقدية كثيرة فجرها هو بداية من خلال ما طرحه في أول كتبه غير الشعرية وهو كتاب 'رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه' الذي صدر سنة 1972م هذه الاختلافات قادت الي أو تفرعت عنها خلافات أخري تتعلق بقراءات البردوني المغايرة والصادمة للتاريخ الشعري والثقافي والاجتماعي والسياسي الثوري لليمن وللشخصيات الشاعرة والمثقفة والثائرة.
وليس معني ما ذهبت اليه من اتخاذ البردوني لذاته مرجعا في أغلب الاحيان لرؤية كل ما حوله ان تخطئه فقد كان الرجل نادر المثال من حيث سعة ثقافته وبصيرته الثاقبة المرهفة ووضوح رؤيته وعمقها وامتدادها.
وقد وزع البردوني اراءه وأفكاره في كتبه الادبية والثقافية والفكرية التاريخية التي كان صدورها يتوالي تباعا منذ بداية السبعينيات مثل: 'قضايا يمنية' 'اليمن الجمهوري' 'فنون الادب الشعبي في اليمن' 'الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل' 'الثقافة والثورة في اليمن' 'الزبيري من أول طلقة إلي آخر قصيدة' 'أشتات' هذا غير مجلة الفكر والادب أهم برنامج ثقافي بثته اذاعة صنعاء ويوجد منه في أرشيفها ألف ومائتا حلقة .. ومئات المقالات في الصحف والمجلات وعشرات الحوارات الصحفية التي كان أغلبها يفجر أزمات بين البردوني وقطاعات واسعة من الكتاب الكبار في اليمن وعندما أهل عقد الثمانينات كان المثقفون والمبدعون في اليمن ومعهم قطاعات واسعة من المتعلمين والنشطاء في المجال السياسي والمجال الاجتماعي والساحة الاكاديمية يدركون جيدا أن البردوني من خلال التحامه الابداعي والفكري بروح الشعب ودفاعه عن قضايا الناس وتعبيره عن شجونهم واعتصاره ابداعيا لنبضهم الماثل في تراثهم الحكائي والتاريخي وسخريتهم اليومية من الحاكم ومن
¥