ينتمي هذا الحزن الأنيق بما يحمله من انساق متضادة (الظالم/ المظلوم) الى الأدب الملتزم وعبر انتقاله من المحنة الذاتية الى عمق المحنة الكونية ومن الهم الفردي الى الهم الجماعي ومن الأنا الى النحن ومن الارض المستعرة التي تشهد فجيعة البردوني الشاعر والابن بغياب الام الى الارضية المشتركة للإنسانية جمعاء لتمرير خطاب ثقافي يدين القمع الفكري والإرهاب الجسدي (قيد + سوط + سيف) ويعري أيديولوجيا الحروب (قنبلة + ذرة) والمذابح التي تلقي بظلالها المثخنة على اليومي والعابر، والشاعر البردوني ينتقل من سعير الحدث المؤطر بجحيم الراهن المعاش ينتقل الى تلافيف الماضي متخذاً من الفلاش باك او الخطف خلفاً محمولاً ضوئياً ينير أروقة الذاكرة وأزمنتها التي تحتضن حضوراً وارفاً ووجهاً حميماً تأمل الآتي:
آه يا أمي وأشواك الأسى
تلهب الاوجاع في قلبي المذاب
كم تذكرت يديك وهما
في يدي أو في طعامي وشرابي
كان يضنيك نحولي واذا
مسني البرد فزنداك ثيابي
واذا ابكاني الجوع ولم
تملكي شيئاً سوى الوعد الكذاب
هدهدت كفاك رأسي مثلما
هدهد الفجر رياحين الروابي
كم بكت عيناك لما رأتا
بصري يطفا ويطوى في الحجاب
المتن يطرح عبر لوحة متخمة بالحزن زمنين الاول: الاول مرمد معاش يشهد عتمة الغياب والاخر متوهج منصرم مضاء بملامح الانوثة التي شكلت مع الذات المتكلمة مرايا صقيلة تستبطن حقبة تاريخية بهمومها الاجتماعية والسياسية والثقافية، اضف الى ذلك ان هيمنة حاسة اللمس التي تستجلب تفاصيل الكف وحركتها الحميمة التي تطفئ جذوة الجوع تارة وجذوة البرد اخرى قد اضاءت طوفان الفقد الذي اجتاح الذات المرمدة بسعير حدث الفقد فلفعها باحساسات محايثة لاحساسات الطفولة ازاء فتك البرد وضراوة الجوع ووثاق العتمة لتكريس احساسات الوحشة واللوعة الا ان المتن يخطف هذه العذابات حين نكون في مواجهة اتقادات فينيقية تجعلك تتابع حركة الشاعر البردوني الذي ينفض رماد هذه العذابات ليحلق مزهواً فينيقاً للشعر في سماء الخلود تأمل ماقاله في الخاتمة:
ها أنا يا أمي اليوم فتىً
طائر الصيت بعيد في الشهاب
املأ التاريخ لحناً وصدىً
وتغني لغة الخلد ربابي
تشكل هذه الأبيات الشعرية ترنيمة شعرية تقي الذات المكلومة هجير الاستسلام لطواحين الحزن، فالمتن يرتقي من عتمة البصر التي غلفت الطفولة بعذاباتها الى البصيرة الثاقبة التي تتجاوز افاق البصر والتي استطاعت ان تخلق من مكابداتها مهمازاً لابداع متفرد خالد، ان هذه القصيدة نجحت في ان تكون بياناً تربوياً يدين الضعف ويبارك التواصل مع الحياة.
وقد تذكي الأنوثة جذوة الحزن في مخيال الشاعر فيصوغ البردوني لوحة شعرية متقنة، لاحظ الآتي:
أيا قلب كم ذبت في حبها
لحوناً مضرجة بالدما
وكم هزني طيفها في الدجى
وكم هز قيثاري الملهما
وكم ساجلتني خيالاتها
كما ساجل المغرم المغرما
فما عطفت قلبها رحمة
ولا فكرت آه أن ترحما؟!
مما لاشك فيه ان رنة الحزن المهيمنة على هذه البنية الدرامية المتقنة تنجح في ان تعكس على مرايا القصيدة ملامح معاصرة للشاعر عباس بن الاحنف، انت شكوى انيقة يمتزج فيها الشعري بالتشكيلي المتمظهر في حمرة الجراح وعتمة التشظي (كم هزني طيف في الدجى) ولكن ما أن تتحرك القصيدة الى الخاتمة حتى تجد الاحساس بالعنفوان ذاته.
وخلاصة القول، فإن الشاعر البردوني الذي قال عن نفسه:
أنا شاعر وما الشعر إلا
خفقاتي تذوب شجواً منغم
شاعر صان دمعه فتغنى
بلغات الدموع شعراً متيم
قد اضاء وبوعي جمالي عتمة الحزن بهندسة ايحائية طريفة تتحرك عبر فضائين الاول مرمد يعكس شراسة العتمة ودجنة الاغتراب والاخر ناصع متوهج مترع بالعنفوان والامل ويتم انتقال أفق التلقي بينهما بمكابدات فنية تخلق مواجهة إيجابية بين الذات وانكساراتها للخروج من دهاليز الحيرة والشتات.
ـ[سعد مردف عمار]ــــــــ[01 - 02 - 2010, 12:43 ص]ـ
حفيدة الشهيد:
لقد أشرعتِ أيتها الأديبة الأريبة كلَّ باب، يسَّر الله لك سبلك و طيب الله أيامك بكل خير، ها إنني أراك تعبقين أيتها السوسنة بكل عبير على الفصيح فيضوع منك عبق العربية، و تنداح كلماتك نثاراً في أكثر من موضع من هذا المنتدى الأغر فأومن حقا أنك قد أخذتت العلوم و أدركت الآداب فلك مني كل امتنان و افتخار.
سعد مردف