«26سبتمبر» استضافت عدداً من الادباء للكتابة في ذكرى الراحل الكبير عبدالله البردوني وما تمتع به من مميزات وخصائص جعلت منه هامة سامقة في عالم الأدب والشعر ننشرها تباعاً ابتداءً من هذا العدد كأقل واجب تخليداً لذكرى رحيله التاسعة.
> تتمحور هذه القراءة حول براعة الشاعر البردوني في تأثيث هندسة طريفة للحزن الفلسفي الذي انضجته نار التجربة والموهبة الفذة لتكون القصيدة برمتها مرايا سحرية نبصر من خلالها رؤى الشاعر وتطلعاته وعبر تعاشق شفيف بين إيقاعية الحزن وايقاعية القصيدة المخضلة بندى المجاز التي يختلط فيها الواقعي بالسوريالي والشعري بالتشكيلي لتمرير خطاب ثقافي يدين الاستسلام لقيود الحزن ومتوالياته المرمدة. فالحزن المطروح في النص ليس حزناً رومانسياً ولا مشاعر سوداوية عاصفة وإنما موقف فلسفي للحياة والكون. أما عن هندسة قصيدة الحزن فإن معمارها يقوم على لعبة استدراج المتلقي الى متاهات الحزن ودهاليزه المغلقة ومن ثم ينعطف المتن وبشكل صادم صوب الضفة الأخرى المشربة بضوء الحياة وعنفوان الأمل. وهي هندسة لا تطال البناء الشعري فحسب بل والبنية النثرية لمقدمات القصائد
فهو يقول في مقدمة قصيدته (مع الحياة): ومن لم يتألم فليس بشاعر، ومن لم يفصح عن ألمه فليس بموهوب، ومن لم ينشر ما أفصح عنه فليس بشجاع) فالبردوني يعرف تماماً بأن الافصاح عن الالم هو الخطوة الاولى في التحرر من قيوده، ويأتي نشر هذا الالم لتتخلق مواجهة مباشرة مع الالم عبر مرايا الورقة. ففي قصيدة (أنسى أن أموت) المتشذرة تدوينياً الى اربع شذرات نقف عند شذرتها الاولى التي يرد فيها:
تمتصني أمواج هذا الليل في شره صموت
وتعيد ما بدأت وتنوي أن تفوت ولا تفوت
فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
وتقول لي: مت يا أيها الذاوي ... فأنسى أن أموت
مما لاشك فيه أن المتن يصوغ -وبمكابدة جمالية حادة- معلقة جديدة تشتغل على تفكيك معلقة امرئ القيس واعادة صياغتها بدءًا بالخطف الايقاعي من بحر الطويل الى الكامل وربما اضاءت اسمية البحر من طرف خفي الرغبة في الاكتمال ومروراً باستبدال استغاثات امرئ القيس من ليلة العاتي وامواجه المدلهمة: (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي/بصبح وما الاصباح منك بأمثل) بانتصار باذخ الدلالة على الزمن المدلهم المتمظهر في (أنسى أن أموت) هذه العبارة التي شكلت الضفة المضيئة التي أنارت ملامح الشاعر المبتهج بانتصاره على سلطان الزمن وامتلاكه اكسير الحياة، والخلود بل انه نجح في ان يفرغ الموت من محتواه المعجمي ليضخه بدلالات جديدة مدهشة.
زد على ذلك ان عبارة (أنسى أن أموت) بما تحمله من مد زمني متسع بسبب من طبيعة الفعل المضارع قد أطرت هذه الشذرة المعلقة على أستار الذاكرة وقد تحركت بألقها المفعم بالتحدي والعنفوان حركة دائرية من العنونة الى آخر عبارة في المتن لنكتشف التوق الى تفتيت الدجنة المهيمنة من الخارج.
الشاعر إذن يهندس قصيدة الحزن وفقاً لتصور معين فهو يبدأ بعتمة مدلهمة للموج وحركة فوضوية (تعيد ما بدأت+تفوت ولا تفوت) تتحرك لبعثرة المكان وصوت خفيض (فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت) ينجح في استدراج افق التلقي الا ان المخيال الشعري يعطف هذه العتمة صوب دائرة الضوء ليسحقها بصوته المجلجل الخالد (أنسى أن أموت).
وفي قصيدة (أمي) تبقى الهندسة ذاتها اذ تستشعر توق البردوني الى تشكيل فضاء درامي متوتر يمسرح الحزن بامكنته وملامح أنواته واحداثه المحبوكة الصياغة لاسيما وان القصيدة برمتها تتمحور حول فاجعة الغياب:
تركتني هاهنا بين العذاب
ومضت ياطول حزني واكتئابي
تركتني للشقا وحدي هنا
واستراحت وحدها بين التراب
حيث لاجور ولا بغي ولا
ذرة تنبي وتنبي بالخراب
حيث لاسيف ولا قنبلة
حيث لاحرب ولالمع حراب
حيث لا قيد ولا سوط ولا
ظالم يطغى ومظلوم يحابي
¥