الثقافة العربية الإسلامية في تنوعها قد خلقت في علمائنا ميزة "الشمول الواعي البادي في المد الأفقي لدى العالم المسلم والتخصص البصير بدقائق العلم البادي في التدبر الرأسي لدى ذلك العالم". وقد انعكس هذا التعدد والتنوع المعرفي على كتاباتهم ودراساتهم، فامتازت بخاصية الوحدة في التنوع: تنوع في مادة العلم وموضوعه، ووحدة في الغاية والمنهج، ومن ثم يجب أن تكون قراءتنا لمصنفات هؤلاء العلماء على أساس موسوعي، وأن نراعي ذلك الترابط بين الاختصاصات في ثقافة علمائنا القدامى، وأن نراعي كذلك انتماءاتهم السياسية والمذهبية باعتبار أن الثقافة العربية الإسلامية "لم تكن في يوم من الأيام مستقلة ولا متعالية عن الصراعات السياسية والاجتماعية، بل لقد كانت باستمرار الساحة الرئيسية التي تجري فيها هذه الصراعات". فكل عالم (لغوي أو بلاغي أو متكلم أو أصولي أو ناقد) كان ينطلق من أصول مذهبية وفكرية ويحاول أن ينتصر لها وينقض آراء خصومه ومخالفيه، ولا أدل على ذلك ما كان قائما من صراعات فكرية ومذهبية بين المعتزلة والأشاعرة، انعكس أثرها على دراساتهم النحوية والبلاغية والنقدية.
1 - ثنائية اللفظ والمعنى في التراث العربي الإسلامي إذا كان القرآن الكريم هو النص المحوري في الثقافة العربية الإسلامية، فإن ثنائية اللفظ والمعنى تعد أبرز مبحث تنازعته علوم هذه الثقافة، والسبب في ذلك أن "علاقة اللفظ بالمعنى تمتد إلى أعماق بعيدة تنتظم النشاطات البشرية في المجال اللغوي، من كلام وإبداع ونظم وغير ذلك…فكان لابد أن يوجد مصطلح يمثل جهة اللغة ويعبر عنها وهو (اللفظ)، ومصطلح يعبر عن جهة المضامين وهو (المعنى) ".
واللفظ في –أصل اللغة– مصدر للفعل بمعنى الرمي، ويتناول ما لم يكن صوتا وحرفا، وما هو حرف واحد وأكثر، مهملا كان أو مستعملا، صادرا من الفم أولا، ثم خص في عرف اللغة بما صدر من الفم، من الصوت المعتمد على المخرج حرفا واحدا أو أكثر، مهملا أو مستعملا. وفي لسان العرب: لفظت الشيء من فمي ألفظه لفظا رميته. يقال أكلت الثمر ولفظت النواة أي رميتها. وفي القاموس المحيط: لفظ بالكلام نطق كتلفظ.
أما المعنى لغة: فهو ما يقصد بشيء، ولا يطلقون المعنى على شيء إلا إذا كان مقصودا، وأما إذا فهم الشيء على سبيل التبعية فيسمى معنى بالعرض لا بالذات. ومعنى كل كلام، ومعناته ومعنيته، مقصده.
فالمفهوم اللغوي للفظ أنه ما يتلفظ به الإنسان من الكلام، وللمعنى أنه المقصود باللفظ، فالقصد شرط في اللفظ والمعنى، إذ لو لم يعتبر القصد لا يسمى الملفوظ كلاما.
واللفظ في الاصطلاح هو ما يتلفظ به الإنسان أو في حكمه، مهملا كان، أو مستعملا.
وعلى مصطلح أرباب المعاني: هو عبارة عن صورة المعنى الأول الدال على المعنى الثاني على ما صرح به الشريف الجرجاني. حيث قال: "إذا وضعوا اللفظ بما يدل على تفخيمه لم يريدوا اللفظ المنطوق، ولكن معنى اللفظ الذي دل به على المعنى الثاني".
أما المعاني فهي الصورة الذهنية إذ وقع بإزائها اللفظ من حيث إنها تقصد منه، وذلك ما يكون بالوضع، فإن عبر عنها بلفظ مفرد سمي معنى مفردا، وإن عبر عنها بلفظ مركب سمي معنى مركبا. والمعاني: هي الصورة الذهنية من حيث إنه وضع بإزائها الألفاظ والصور الحاصلة في العقل، فمن حيث إنها تقصد باللفظ سميت معنى، ومن حيث إنها تحصل من اللفظ في العقل سميت مفهوما. والمعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ الذي نصل إليه بغير واسطة.
يتضح إذن من خلال هذه التعريفات، أن طبيعة اللفظ والمعنى هو التلازم، فلا وجود للفظ بدون معنى، ولا وجود لمعنى بدون لفظ. فإذا كان المعنى صورة ذهنية فقد وضع بإزائه لفظ هو القصد من تلك الصورة أو هويتها.
وقد أدرك العلماء على نحو جيد قوة الترابط بين اللفظ والمعنى، وأدركوا قيمة المعنى في التعبير، ومكانة الألفاظ حين تنضم إلى بعضها، فالمعنى لا يقوم بغير لفظ، كما لا تقوم الروح بغير جسد، فهما متلازمان تلازم الروح والجسد في الأشخاص يقول العتابي "الألفاظ أجساد والمعاني أرواح، وإنما تراها بعيون القلوب، فإذا قدمت منها مؤخرا، أو أخرت منها مقدما، أفسدت الصورة وغيرت المعنى، كما لو حول رأس إلى موضع يد، أو يد إلى موضع رجل، ولتحولت الخلقة وتغيرت الحلية".
¥