تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بدأ الشاعر فدل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن وأصاب، لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله (لتجمدا)، وظن أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرة والسلامة من الحزن، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن…وغلط فيما ظن. وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين مع أن الحال حال بكاء، ويستراب في أن لا تبكي العين.

وهكذا يتضح أن نظرية الفصل بين اللفظ ومعناه، قد سيطرت على البلاغيين كما سيطرت على النقاد، فشرعوا لكل عنصر مقاييس للجودة والرداءة، وحددوا لكل طرف أوصافه الخاصة به التي تزيده بهاء وحسنا، أو قبحا وخشونة، بل لقد توسع البلاغيون في النظر إلى الألفاظ في علاقتها بمعانيها. فهناك اللفظ العذب، واللفظ القوي، واللفظ الرقيق المستحب، وهناك اللفظ النابي القلق المستكره. ومن الألفاظ ما يحسن في الرثاء ولا يملح في المديح، ويستحب في النسيب ويقبح في الرثاء أو الفخر أو المدح. وفي المقابل هناك المعنى العميق، والمعنى الخفيف، والمعنى البعيد، والمعنى السخيف، والمعنى الجزل، فلكل مقام مقال. ولا أدل على هذا التقنين البلاغي لكل من اللفظ والمعنى من قول الجاحظ "أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم دلا متعشقا، صار في قلبك أحلى ولصدرك أملا. والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة وأكسبت الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت وحسب ما زخرفت، فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري".

ومن المسائل التي شغلت البلاغيين ضمن قضية اللفظ والمعنى مسألة الفصاحة، وهل هي من عوارض الألفاظ، أم من عوارض المعاني، أم لمجموعهما. أما أنصار اللفظ فاعتبروها من صفات اللفظ وخصائصه، وهو ما يشير إليه كلام ابن سنان "أن الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ، إذا وجدت على شروط عدة، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ، وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف، وبوجود أضدادها تستحق الاطراح والذم". وقد اشترط ابن سنان لفصاحة اللفظ شروطا ثمانية نجملها فيما يلي: أن تؤلف اللفظة من حروف متباعدة المخارج لتكون خفيفة على اللسان، وأن نجد لتأليف اللفظة في السمع حسنا ومزية، وأن تكون اللفظة غير متوعرة وحشية، وغير ساقطة عامية، وأن تكون جارية على الصرف العربي الصحيح في التصريف والاستعمال، وألا تكون الكلمة قد عبر عنها عن أمر آخر يكره ذكره، فإذا أوردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، وأن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف، فإنها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت، وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة، وأن تكون الكلمة مصغرة في موضع عبر بها فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو يجري مجرى ذلك.

وقد أنكر عبد القاهر الجرجاني أن تكون الفصاحة من عوارض اللفظ المفرد، لإيمانه بأن فصاحة اللفظ عائدة للمعنى، وأن هذه الفصاحة لا تظهر إلا بضم الكلام بعضه إلى بعض في جملة من القول، أو في نص من النصوص، وما يدل على ذلك أننا نرى اللفظة فصيحة في موضع وغير فصيحة في مواضع كثيرة، ومن ثم فإن المزية التي من أجلها استحق "اللفظ الوصف بأنه فصيح، هي في المعنى دون اللفظ لأنه لو كانت بها المزية التي من أجلها يستحق الوصف بأنه فصيح تكون فيه دون معناه، لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة إنها فصيحة، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها في كل حال". يربط عبد القاهر مفهوم الفصاحة بالنظم والتأليف والترتيب، ولا شيء من الاعتبار للفظ وحده قبل أن يدخل في هذا النظم الذي ينتظم به المعنى، فالنظم "عمل يعمله مؤلف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها، وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة، فيتوخى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش والوشي".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير