ويمكن أن يقال إن صحيفة بشر بن المعتمر قد حددت مجموعة من الأوصاف والشروط لكل من اللفظ والمعنى، يستحقان بها مرتبة الفصاحة والبلاغة. فلا يحسن الكلام حتى يكون قد جمع بين العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة، مع السلاسة والنصاعة والفخامة والشرف، ولعل أهم ما جاء في هذه الصحيفة تلك الفكرة التي صارت فيما بعد حجر الزاوية في مفهوم البلاغة عند النقاد والبلاغيين، ونعني بها فكرة (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، فالعبرة عند (بشر بن المعتمر) ليست بشرف اللفظ ولا بشرف المعنى، وإنما مدار الشرف هو مراعاة المقام والموازنة بين أقدار المعاني وأقدار المستمعين "فتجعل لكل طبقة كلاما، ولكل حال مقاما، حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات".
ما يستفاد من كلام (بشر بن المعتمر) و (أبي هلال العسكري) وغيرهما من البلاغيين في هذا الصدد، أن مطابقة الكلام لمقتضى الحال لا تتم إلا إذا وضع المتكلم أو الشاعر في حسبانه الموضوع أو الغرض الذي يتكلم فيه، بحيث يأتي كلامه متلائما معه مسايرا له، كما يضع في حسبانه المخاطب الذي يتوجه إليه بكلامه، فيكيف تعبيره اللغوي وفق الحال التي عليها هذا المخاطب، من علم بالموضوع أو جهل به أو إنكار له. ويمكن القول إن البلاغيين بمفهومهم السابق في رعاية المطابقة لمقتضى الحال قد أغفلوا مصدر الكلام نفسه، وهو المتكلم وما يمكن أن تضطرب به أعماقه "من مشاعر متباينة وأحاسيس معقدة تستحوذ عليه ولا يستطيع الإفلات منها، فيأتي كلامه تعبيرا عن ذاته، وتصويرا لمشاعره الكامنة في باطنه، والواقع أنه لا يمكن إغفال المتكلم أو التضحية به لحساب الموضوع أو المخاطب".
ومن يبن الأوصاف التي حددها البلاغيون للفظ، الجزالة والاستقامة ومشاكلة اللفظ للمعنى، ويقصد البلاغيون بجزالة اللفظ أن لا يكون غريبا نابيا، ولا سوقيا مبتذلا، ومعياره أن يكون بحيث تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها.
أما الاستقامة، فأن يكون اللفظ مستقيما من ناحية الجرس أو الدلالة أو التجانس مع قرائنه من الألفاظ، فيلائم اللفظ ما يجاوره، ويتسق مع الألفاظ التي تحيط به من حيث الجرس الموسيقي، ومن حيث مطابقة معناه لمعاني ما حوله من الألفاظ، فيقرن الغريب بمثله، والمتداول بمثله، حتى يكون "العمل الأدبي بناء سليما متسق الأجزاء، متراص اللبنات، تتحقق فيه الوحدة الفنية بين أجزاء العمل الأدبي".
وأما مشاكلة اللفظ للمعنى، فأن يكون اللفظ مشاكلا للمعنى إذا وقع موقعه من غير زيادة ولا نقصان، ولذا أخذ على الأعشى استخدام كلمة الرجل مكان الإنسان في قوله:
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا.
لأن الملامة تتجه للإنسان رجلا كان أو امرأة، ولا تخص الرجل وحده، فذكره الرجل هنا في مكان الإنسان معيب. ومن بين الأوصاف التي ارتضاها البلاغيون للمعنى، الشرف والصحة والإصابة في الوصف. أما شرف المعنى، فأن يقصد الشاعر إلى الإغراب واختيار الصفات الجيدة إذا وصف أو مدح، فإذا وصف وجب أن يكون موصوفه كريما، وإذا تغزل ذكر من أحوال محبوبه ما يمتدحه ذو الوجه الذي برح به الحب.
وأما الإصابة في الوصف، فأن يذكر المعاني التي هي ألصق بمثال الموصوف وينأى عن المعاني والصفات المجهولة. وأما صحة المعنى فيقصد به خلو المعنى من الخطأ، والمقصود به مخالفة العرف اللغوي أو التقليدي الذي تفرضه كل لغة على أهلها في المجاز والحقيقة على السواء، فمن الخطأ الذي سببه الجهل بالعرف اللغوي قول الشاعر: بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الدار كأني حمار.
فالعرف اللغوي جار على تشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة والقوة، ولذلك عيب على الشاعر تشبيه نفسه بالحمار، فالمعروف أن يشبه بالحمار في البلادة، لا في القوة.
ومن الخطأ الذي سببه الجهل بالعرف التقليدي قول العباس بن الأحنف: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
¥