تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب، وتوهج العبارة في منظار حياتهم، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله، وتناغم الحروف في تركيبه، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه، ومع دلالته السمعية من وجه آخر، فالذي يستلذه السمع، وتسيغه النفس، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة، والذي يشرأب له العنق، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وأيجاباً.

وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها، والتي كونت كلمة معين في النص، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً، رقةً أو خشونة، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة، أو إذكاء الحفيظة، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً، أو بتناغم الكلمة وحدها، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.

إن إيقاع اللفظ المفرد، وتناغم الكلمة الواحدة، عبارة عن جرس


(164)

موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن، أو أثر عند المتلقي، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية: «التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها» (1). فتوحي بأثر موسيقي خاص، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة: الألم، البهجة، اليأس، الرجاء، الرغبة، الرهبة، الوعد، الوعيد، الانذار، التوقع، الترصد، التلبث. . . إلخ.
ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى، لها استقلاليتها الصوتية، إما في الصدى المؤثر، وإما في البعد الصوتي الخاص، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى، وإما بإقبال العاطفة، وإما بريادة التوقع، فهي حيناً تصك السمع، وحيناً تهيء النفس، وحيناً تضفي صيغة التأثر: فزعاً من شيء، أو توجهاً لشيء، أو طمعاً في شيء؛ وهكذا.
هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة، تكونت من حروف مختارة، فشكلت أصواتاً مختارة، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى، ومجالات عديدة، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.
قال الخطابي (ت: 383 ـ 388 هـ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة: «لفظ حاصل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح، ولا أجزل، ولا أعذب من ألفاظه» (2).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير