وهذا نظير قوله تعالى: (يوم تمور السماء مَوراً وتسير الجبال سيراً).
ومراعاة ((الجبال))، وهي جمع مؤنث كمراعاة المفرد المؤنث يتضح في قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبالُ أوبي معه والطيرَ ... ).
ويتبين هذا أيضاً في عود الضمير ا لمؤنث المفرد على ((الجبال)) وهي جمع كقوله تعالى:
(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نَسفاً).
غير أننا نجد ((الجبال)) وقد روعيت جمعاً مؤنثاً بدلالة الفعل بعدها مسنداً إلى نون النسوة كما في قوله تعالى: (إنا سخّرنا الجبال معه يُسبحنَ بالعشي والإشراق).
وقد وُصفت ((الجبال)) بصفة مفردة مؤنثة في قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرَّ السحاب).
5 ـ جمل:
وقد جاء في لغة التنزيل ((جمالة)) اسم جمع لـ ((جمل كالصحب والصحابة ونحو هذا، وذلك في قوله تعالى: (إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صُفر).
غير أن ((جمالة)) قد وصفت بالجمع المؤنث وهو ((صُفر)) جمع أصفر أو صفراء، وفي هذا نظر إلى معنى الجمعية دون ((الشكل)) وهو لفظ المفرد المؤنث.
6 ـ رحم:
وتعرض في هذا الأصل ((رحمة)) وهي اسم مؤنث في قوله تعالى:
(إن رحمةَ الله قريب من المحسنين).
تعليق:
في هذه الآية وُصفت ((الرحمة)) وهي اسم مؤنث حقيقي بـ ((قريب)) على جهة الإسناد لا الوصف. وقد اكتفى النحاة بقولهم: إن ما جاء على ((فعيل) يستوي فيه المذكر والمؤنث، وحملوا على هذا بناء ((فَعول)) نحو: صَبور وغيره.
وقالوا أيضاً: إن ((فعيل)) الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث لابد أن يكون بمعنى ((مفعول))، وهو غير مطرد، فقد يأتي منه بمعنى ((فاعل)) نحو: ((قريب)) الذي جاء في الآية.
أن العربية بعد أن فارقت عصر القرآن قد وجد فيها شيء اقتضاه تحول الزمن الذي قضى بالتمييز بين المذكر والمؤنث دفعاً للبس، ولأن الحياة الجديدة بعد تلك الحقبة كان فيها من العلم بحقوق المرأة و ((الزوج)) وبما يكون من حقها في الإرث والزواج والطلاق وسائر ما يدعى ((الأحوال الشخصية)) من خصوصيات تختلف عنها في الرجل ((الزوج))، كل ذلك كان من شأنه أن يميز في كلمة ((زوج)) لتدل على المراد لأن ((زوج)) للرجل والمرأة، وهكذا لحقت العلامة كلمة ((زوج)) للدلالة على المرأة فشاعت كلمة ((زوجة)).
ومن الدليل على أن التأنيث حادث وليس بأصيل ميل العربية إلى الابتعاد عن المؤنث بجعل الفعل يَعرَى عما يشير إلى المؤنث الفاعل كما في قوله تعالى: (وقال لهم خزَنتها سلام عليكم). وأدَلّ من هذا قوله تعالى: (وقال نسوة في المدينة).
إن الفعل في الآية قد عَري عما يشير إلى أن الفاعل مؤنث وهو ((خَزَنتها)) بسبب الفاصل ((لهم))، وكأن الفاصل سوّغ الرجوع إلى الأصل، وهو التذكير في العربية، وهو صاحب الأصالة.
والفعل ((قال)) في الآية الثانية قد عَريَ عما يشير إلى أن الفاعل مؤنث حقيقي جَرياً مع العربية التي ننظر إلى الأصل، وهو عدم العلامة المميزة للمؤنث.
ولعلي أُلحق بهذا ما ورد من مجيء الصفة مذكرة والموصوف مؤنث كقوله تعالى: (خُشَعاً أبصارهم)، إن ((خُشّعاً)) جمع ((خاشع)) مثل ((ساجد)) وجمعه ((سُجَّد))، وعودها إلى الأبصار على طريقة النعت السببي يومئ إلى إغفال المؤنث باعتبار التذكير، وهو الأصل، في حين وصفت ((الأبصار)) بـ ((خاشعة)) وهي مؤنثة جرياً على ما انتهت إليه العربية في تطورها في قوله تعالى: (خاشعةً أبصارُهم).
وجاءت مراعاة المعنى في كثير من الكلم الذي قد يعني الكثرة كما رأينا في ((بعض))، وكما هو الحاصل في ((كلّ)) و ((جميع)) كما سنرى، ولكنها تجاوزت هذا الحد إلى ما هو أقرب إلى الجمع مما له مفرد من لفظه أو غيره. ومن هذا الضرب الأخير ((ذباب)) فقد روعي إفراده وتذكيره، وإن كان منه ((ذبابة)) كسائر أسماء الجمع وأسماء الجنس نحو: شَجَر وشَجَرة، وتَمر وتَمرة، قال تعالى:
(وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه). وقد يُلحَق بهذا مما لم يأت منه مفرد كما في ((ذُرّيّة))، فقد وُصفت، وهي اسم مؤنث بالصفة مجموعة جمعاً مذكراً كما في قوله تعالى: (ولهم ذرية ضعفاء)، وهذا يعني أن مراعاة المعنى قد غُلّب في الوصف، ذلك أن ((ذرية))، وهي لفظ مؤنث، تشتمل على الذكور والإناث. والتغليب للذكورة.
¥