تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن التنسيق بين الآيات وإن تفرقت منزلا في القرآن المجيد، هو أظهر معاني الترتيل، والغريب أننا نجد كثيرا من المفسرين، رغم اتفاق أقوال أئمة أهل اللغة -حسب تعبير ابن عاشور [3]- على أن الترتيل مأخوذ من النضد والاتساق ومن التنسيق، ومن الانتظام على استقامة، يقصرونه على الجانب الصوتي منه؛ بمعنى "إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة".

وما الترتيل الذي قام به جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل (ورتلناه ترتيلا) إلا إرساء لمنهج تبياني وتنزيلي وتوظيفي للآيات في واقع الناس. ومن هذا المنهج تفتق علم من نبغ من أئمة الأمة الأعلام، وبه ظهروا على من سواهم. وقد استمر إلى حين انبثقت خير أمة أخرجت للناس (كنتم خير أمة أخرجت للناس) [سورة ال عمران/الآية: 110]. فالقرآن الكريم في أول تنزله نزل مستجيبا لحاجات الجماعة المسلمة التأسيسية معرفيا وتربويا وسياسيا وتعبديا واجتماعيا وتشريعيا واقتصاديا وأخلاقيا، كل ذلك عن طريق منهج تم إرساؤه بالترتيل.

* مستويات الترتيل

يمكننا أن نتبين للترتيل في كتاب الله تعالى ثلاثة مستويات:

- المستوى المفاهيمي:

إن القرآن الكريم، بما أنه وحي أوحي به من عند الله أكبر من الواقع العيني المشخص الذي يتنزل عليه، فلا يكون -بالتبع- إلا في ضوء ما تكرم الموحي به سبحانه بإيداعه فيه من ضوابط فهمه، ومداخل المعرفة به. ومن هنا ضرورة الترتيل على المستوى اللفظي لتحقيق دلالات الألفاظ في ضوء الاستبعاد الكلي لاحتمال وجود ترادف في القرآن بالمعنى الشائع للترادف [4].

إن بناء المفاهيم يقتضي التدقيق التحليلي، أي القدرة على فك الوحدة إلى عناصرها، والتمحيص في الجزئيات، فالتعامل يكون على قدر الوحدة المعنية. وهو عمل يتطلب مهارات تحليلية بالأساس، إذ يكون الباحث فيه كالخبير في معمل "فحوص طبية أو حيوية يمسك المجهر لكي يفحص العينة .. اللفظ .. الاصطلاح الذي منه يخرج المفهوم" [5].

إذا تبينت أهمية تحديد مدلولات مفاهيم القرآن المجيد، فإن القيام بالترتيل يصبح ضرورة لاستبانة حمولتها، إذ القرآن مرتل، حسن النضد، متسق كنسيج الرتيلاء التي ترتل بيتها بإتقان ونظام، تتفاضى الآيات فيه والبصائر التي صرفت فيه على شاكلة يتيسر معها الذكر، وتمكن معها الهداية.

وبعد أن قدم أحمدد عبادي المستوى المفاهيمي في إطار استدلالي محكم ومتدرج خلص إلى أن الترتيل على المستوى المفاهيمي كما على المستوى اللفظي وفي غيره من الاتجاهات له بعدان أساسيان:

1. البعد المتمثل في الدراسة المصطلحية، بمختلف خطواتها المنهجية [6].

2. البعد الموضوعي المضموني الذي تكون فيه إضاءات للمعنى قيد البحث، وذلك من جوانب قد لا تتصل بتمظهرات جذور المصطلح المختلفة.

وبناء عليه لا يمكن الزعم بالفراغ من الترتيل قبل توفية البعدين معا كامل حقهما. إذ ثمة علاقات ووشائج لا يمكن اكتشافها إلا بالنظر إلى المعنى الكلي "من خلال أنماط التجاوز والتقابل وعبر الانتقال بين مواضع ومواضع، ومن خلال متابعة إيقاعات الخطاب في حركاته" [7].

وبهذا الشكل يتم الانفصال بمدلولات المفاهيم، إذ ضبط المفاهيم المكونة لنسق القرآن المجيد هو الذي يمكن من الاهتداء، فمن يتمكن من المفاهيم في نسقها القرآني فقد تمكن من الإبصار [8].

- المستوى المرجعي النسقي (بناء الأطر المرجعية والأنساق القياسية)

ويقصد عبادي بالأطر المرجعية: التضافرات المفاهيمية التي تُنتِج لنا -بعد ترتيلها- أنساقا تمثلية مجالية تكون بالنسبة للتصور الكلي الكامن في القرآن المجيد بمثابة المركبات الإدراكية المشكلة لما يشبه القطاعات له، والتي يتمكن المرتل -بالرد إليها- من تحديد موقعه في الخارطة العامة لهذا التصور الكلي.

وتعد الأطر المرجعية أو الأنساق القياسية بمثابة اللحمة والعصب للترتيل، تضيع في غيابها ملامحه، ولا يبقى لأجزائه من المعنى والفاعلية، ولا لدقائق خيوطه من التناسق والجمال، ما للمجموع المؤتلف، والكل المنتظم [9].

ولابد من الإشارة إلى أن هذه المركبات التي سماها عبادي أطرا مرجعية أو أنساقا قياسية تستوجب عملية كدح وحفر متواصل.

- المستوى التنزيلي:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير