يقف أحمد عبادي في هذا المستوى على الفرق الجوهري بين إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا وتنزيله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالتنزيل -كما يتضح في الآية: 32 من سورة الفرقان- كان ترتيلا بأمر الله، وهذا الترتيل كان يستبطن خطة تشريعية وتربوية وبنائية جلية المعالم، معجزة الملامح [10].
وقد جاء التنزيل في خطته التربوية متعدد المستويات والأبعاد على أكثر من مدخل، المدخل الفردي لتكوين الجماعة، وهو المدخل الذي استوجبه التتابع الزماني للتنزيل، والمدخل الجماعي لتقويم الفرد؛ وهو المدخل الذي استوجبه تمام الرسالة واستقامة الجماعة، التي خلفها الرسول صلى الله عليه وسلم، لتكون علامة لبدء مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني [11].
وقد استرعى هذا المستوى الثالث من مستويات الترتيل اهتمام مجموعة من العلماء وخاصة العاملين منهم المكابدين، ففصلوا في كيفيات التنزيل، وفرعوا القول في شروطه ومناطات -تخريجا وتحقيقا وتنقيحا- ومقاصده ومآلاته والموازنات بين المصالح والمفاسد التي قد تنتج عن هذا التنزيل، كما فصلوا القول في وسائل ترتيب الأولويات، وميزوا بين الأولى في كل نازلة، وتتبعوا الاحتمالات والوجوه والأشباه والنظائر، فنتج من ذلك كله فقه تنزيلي ضاف ووضيء، فأدوا بذلك رحمهم الله ما عليهم، وعلينا أن نؤدي ما علينا [12].
* ضوابط الترتيل
- الضابط المنهاجي
تتمثل العقدة المنهجية في سياق الترتيل في القدرة على استيعاب الفوارق بين مستوى العمل على بناء المفاهيم، وبين مستوى التعامل على بناء الأطر المرجعية التي تنتظم هذه المفاهيم.
من هنا تأتي أهمية الضابط المنهاجي للترتيل الذي يعد بمثابة خريطة طريق لاستبانة الخطوات أو الوسائط والوسائل التي يتحقق بها الوصول إلى الغاية على أفضل وأكمل ما تقتضيه الأصول وتتيحه الإمكانات.
- الضابط التمثّلي
وهو في حقيقته تلك النظرة الكلية في التعامل مع القرآن الكريم، والتي من شأنها أن تؤطر كل مستويات الترتيل: اللفظي/المفاهيمي، النسقي/المرجعي، والتنزيلي/التأويلي، والتي تزكو ثمراتها بمقدار ما تحققه من استيعاب لأبعاد النظرة الكلية المستمدة من طبيعة القرآن الكريم الشاملة.
وفي غيابه فإن الترتيل لن يعدو كونه عبارة عن عملية فرز وتصنيف وتبويب محدودة الدلالة والنفع، غير قادرة على الدفع قدما بالمشروع الكلي الذي ذرئ الإنسان في الأرض للاضطلاع بتحقيقه.
- الضابط اللغوي
ومفاده الانضباط لقوانين اللسان العربي الذي اختاره الله وعاء لهذا الوحي، وهذا الضابط رغم تجلي نفعه في المستويين الآخرين، فإنه ينصرف عموم ضبطه إلى المستوى المفاهيمي من مستويات الترتيل.
- الضابط المقاصدي
وهو ضابط، وإن كان نفعه كسابقه متعديا إلى المستويين الآخرين، فإنه ينصرف أساسا إلى مستوى بناء الأطر المرجعية؛ إذ تسعف استدامة الوعي بالمقاصد في عملية محاكمة المركبات المفاهيمية التي تشكل الأنساق القياسية [13].
- الضابط المآلي
وقوامه هو النظر في مآلات تنزيل الترتيل، وذلك بغية الاستشراف الاستقبالي لعواقبه، قصد الاجتهاد في ضمان أكثر قدر ممكن من الهدى للواقع الذي يجري فيه الترتيل. ولا شك أن النظر المآلي ينطوي على ميزة عدم الانحباس في الواقع القريب الضيق، والانسجام في ملابساته، بل يمكن من المشي سواء على صراط مستقيم، بمجال بصري أرحب، فيمنح الترتيل في مستواه التنزيلي إمكانات أكثر سعة وأهدى رشدا.
- الضابط التكاملي
وهو ضابط يفرض استدامة الوعي بضرورة رد الآيات والبصائر بعضها إلى بعض لاجتناب السقوط في التعضية والتفريق بينها، كما يفرض كذلك التأسي بنبي الرحمة وهو يرتل القرآن ترتيلا.
ولا يخفى على القارئ الحصيف ما لهذه الضوابط من دور فعال وحيوي في الكشف عن مكونات المنهج الأمثل للاضطلاع بأمر الله بترتيل القرآن ترتيلا.
وبعد أن عرض عبادي نظريته التكاملية للترتيل في إطار استدلالي ومنهجي متدرج ومحكم، اجتهد -وبدافع من منهجه الصارم- في تطبيق هذا المنهج الفريد على موضوع تربوي هو: إخراج الإنسان الصالح في القرآن المجيد.
¥