أما ما نراه من شدة ابن تيمية على مخالفيه في مواضع أخرى، فهو محمول على الرغبة القوية في بيان ما يراه من الحق؛ حتى لا يضيع في خضم الخلاف الذي قد يُعرض أحيانًا بأسلوب مؤثر. وابن تيمية -رحمه الله تعالى- حينما يرد بشدة على المخالفين ويحكم عليهم بأحكام شديدة؛ إنما يريد المتشددين في مذهبهم، الذين يحكمون على أهل الإثبات الكامل بأنهم مُجسِّمة وحَشْوية، فهؤلاء ظالمون في حكمهم فاستحقوا منه الأحكام الشديدة،
أما العلماء المعتدلون من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم؛ الذين يحكمون على مخالفيهم ممن هم أهل للاجتهاد بالخطأ .. فإنهم في نظر ابن تيمية مجتهدون مخطئون،
وإن لم يكن هؤلاء وأمثالهم من العلماء المجتهدين هم المقصودين بالحكم عليهم بالخطأ في كلام ابن تيمية، فمن هم العلماء الذين عناهم في كتاباته الكثيرة حينما حكم عليهم بأنهم مجتهدون مخطئون؟!
إنه ينبغي لنا ألا نأخذ مذهب العالم من نمط واحد من كتاباته، وإنما نأخذ نماذج من أنماط متعددة لنصل إلى تقرير مذهبه، وإننا حينما نقارن بين النصوص التي يحمل فيها ابن تيمية على مخالفيه فيصفهم بالضلال، وبين النصوص التي حكم عليهم فيها بأنهم مجتهدون مخطئون ويلتمس لهم الأعذار .. ندرك أنه لا يقصد الحكم على طائفة بعينها مرة بالضلال ومرة بالخطأ، وإنما يحكم بالضلال على من اجتهد في أمر من أمور الدين وهو ليس أهلاً للاجتهاد، أو تعمد مخالفة الحق تعصبًا للرأي أو للمذهب، أو جار في حكمه على مخالفيه، بينما يحكم بالخطأ على من خالف الصواب وهو من أهل الاجتهاد وقد بذل وسعه لمعرفة الحق.
وإن من إنصاف ابن تيمية وإنصاف الحق أن نأخذ كلامه كاملاً في بيان أخطاء الآخرين والرد عليهم، وفي بيان فضائلهم وفي الاعتذار لهم، الأمرَ الذي له أهميته في قصر الخلاف على بيان الحق عند كل عالم، من غير أن يتجاوز ذلك إلى البراءة من المخالفين أو الحكم عليهم بالأحكام الجائرة. ([1]) المرجع السابق (16/ 95، 96).
([2]) المرجع السابق (35/ 103).
([3]) درء تعارض العقل والنقل (2/ 102، 103).
([4]) يعني في المسائل العقدية كما تقدم.
([5]) درء تعارض العقل والنقل (2/ 315).
([6]) جاء في الفتاوى: "والعلمية"، وهو خطأ؛ لأن الخبرية هي العلمية وإنما أراد المؤلف العملية؛ لأنه يعبر في مواضع كثيرة عن مسائل العقيدة بالعلمية أو الخبرية، ويعبر عن الأحكام الفقهية بالعملية.
([7]) وذلك بمناسبة قول الله تعالى في [الصافات:12]، وذلك على
قراءة ضم التاء في] بل عجبت و يسخرون [؛ وهي قراءة حمزة والكسائي في آخرين، انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/ 50).
([8]) مجموع الفتاوى (20/ 33 - 36).
([9]) المرجع السابق (3/ 229).
([10]) منهاج السنة النبوية (5/ 239 - 241).
([11]) الاستقامة (1/ 24 - 26).
([12]) المرجع السابق (1/ 31).
([13]) مجموعة الرسائل المنيرية (3/ 141)، رسالة " قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع"،وهي الرسالة الثامنة.
ـ[خلوصي]ــــــــ[29 Oct 2008, 01:58 ص]ـ
لقد استفاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كثيرًا في كتبه من منهج الكتاب والسنة، فنجده مثلاً حينما يتحدث عن المخالفين في أمور العقيدة يتشدد، ويأتي بأساليب الكلام المنوعة في الرد عليهم والتنفير من مذاهبهم، وهذا يشبه آيات الوعيد وأحاديثه؛ حيث إن من أعظم مقاصدها التنفيرَ من الأعمال السيئة التي حذرت منها تلك الآيات والأحاديث، ثم نجده في مواضع أخرى يعتذر لبعض أولئك المخالفين؛ وهم الذين لم تصل مخالفتهم إلى حد رَدِّ الكتاب والسنة والاستقلال بأصول تخالفهما، أو الدخول في هذا العلم من غير أهلية له، ومع اعتذاره لهم يفتح لهم باب الرجاء فيعتبرهم من جملة علماء هذه الأمة المرحومة، المثاب مجتهدها، المغفور لمخطئها، وذلك يشبه آيات الوعد وأحاديثه الوعد التي من أهم مقاصدها فتح باب الأمل والرجاء لمن قد يصابون باليأس من رحمة الله تعالى.
ولكن طائفة من العلماء تمسكوا بكتابات ابن تيمية التي يرد بها على المخالفين بما فيها من شدة وغلظة، وربما فاقه بعضهم في هذا المجال، بينما مروا مر الكرام على كتاباته التي يعتذر فيها لبعض المخالفين، ويحنو عليهم، ويخاطبهم فيها خطاب العالم لإخوانه الذين يسير هو وإياهم لبلوغ هدف واحد، وإن اختلف طريقه قليلاً عن طريقهم.
¥