ثم انتقلت أنا إلى الدراسات العليا في جامعة أم القرى، وأكمل ذلك الطالب المعهد والتحق بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، وتخرج منها وعاد إلى بلاده، وكوَّن له حلقة دراسية كبرت فيما بعد وزاد عدد أفرادها، وصارت له شهرة كبيرة!!
وكنت أقول في نفسي في أثناء تلك المناقشات: هذا الطالب وأمثاله نشؤوا في مجتمع علمي يرى تأويل بعض الصفات، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، بينما أنا وأمثالي نشأنا في مجتمع علمي يرى عدم تأويل شيء من نصوص الصفات على خلاف ظاهره، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، ولو أني نشأت في مثل المجتمع العلمي الذي نشأ فيه ذلك الطالب لكنت مثله في الغالب، فلماذا أعتقد فيه الضلال والابتداع في اعتقاد لولا فارِق المنشأ العلمي لكنت مثله فيه، أليس الأرفق بي وبه والذي هو من مقتضيات الأخوة الإسلامية أن أحكم عليه بالخطأ وأن يحكم علي هو بذلك، ثم إنْ أقنعته بما أنا عليه رجع إلى الصواب، وإن أقنعني بما هو عليه رجعت إلى الصواب، من غير أن يحصل بيننا تضليل ولا تبديع ولا بغض ولا براءة؟! وإن ظل كل واحد منا على قناعته فلن يؤثر ذلك على ما بيننا من أخوة ومحبة، ما دام الحكم بيننا لا يتجاوز مرحلة التخطئة. وإن العبرة التي نخرج بها من هذه القصة أنه ينبغي للعالم المربي تطبيق أسلوب اللين والتفاهم مع المخالفين في العقائد وغيرها من العلم، على اعتبار أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه، ما داموا مجتهدين أو تابعين لعلماء مجتهدين، وعدم تبديعهم أو تضليلهم، والإبقاءُ على محبتهم القلبية وأخوتهم الدينية وعدمُ البراءة منهم، ولقد طبقت هذا المنهج مع ذلك الطالب النجيب لمدة سنتين ونصف؛ حتى اقتنع بما كنت أقرره آنذاك من غير ضغط ولا إكراه.
وربما لو كنت عاملته بالشدة وعددته مبتدعًا ضالاًّ لزاد تمسكه بمعتقده، خصوصًا فيما لو طُبِّق عليه ما هو معروف غالبًا من فصل الطالب من الدراسة إذا هو جاهر بمعتقده، الذي يراه بعض المسؤولين بدعة وضلالة. إنك حينما تجادل إنسانًا من أهل العلم في أمر ترى أنك فيه على الحق ويرى هو أنه على الحق، فتقول له: أنت ضال مبتدع، فإنه سيقول لك في الوقت نفسه: بل أنت الضال المبتدع! وإن لم يستطع أن يقولها بلسانه فإنه يعتقدها بقلبه، وهل يرجو الإنسان الداعية من إنسان آخر يضلله ويبدعه أن يسمع لقوله وأن يقتنع برأيه؟!
إن الذي يُلوِّح بالهجوم المضاد على الآخرين ويتهمهم في عقائدهم يكون قد أقام بينهم وبينه سدًّا منيعًا يصعب اختراقه، وبالتالي فإنه يبعد من هذا المهاجم أن يصل إلى قلوب من يريد دعوتهم مهما أوتي من حجة وبلاغة.
من نتائج الحيدة عن هذا المنهج
هذا المنهج الذي تم بيانه؛ وهو الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد بالخطأ وعدم الحكم عليهم بالابتداع والضلال .. هو المنهج المعتدل الذي يضمن -بإذن الله تعالى- بقاء المودة والتفاهم بين علماء المسلمين مع اختلافهم في الاجتهاد.
ولقد ظهرت نتائج سيئة للحيدة عن هذا المنهج على مدار التاريخ الإسلامي، فمن هذه النتائج ظهور الفتن والخلافات الحادة بين علماء المسلمين، وسأكتفي بذكر ثلاثة من العلماء الذين حصل لهم أذى واضطهاد بسبب اعتقادهم:
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
فالعالم الأول هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وقد كان امتحانه بالقول بخلق القرآن، وقد بدأت هذه المحنة في أواخر عهد أمير المؤمنين المأمون، وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين، بعد أن أقنعه دعاة المعتزلة بهذه العقيدة؛ وهي أن القرآن مخلوق، فاعتنق ذلك، ثم أقنعوه بضرورة حمل العلماء على القول بهذه العقيدة بالقوة، فكتب المأمون من مَقَرِّ غَزْوه في بلاد الروم إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم في امتحان العلماء في ذلك.
وقد وصف المأمون علماء السنة في كتابه بقوله: ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص مِنْ تلاوته مُبطل قولَهم ومكذِّب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم.
إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورؤوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظًّا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ... إلخ!!
¥