ولا أنسى حوارًا دار بين أستاذين؛ أحدهما يحكم على الناس بمقياس التقوى؛ أخْذًا من قول الله تعالىفي سورة [الحجرات:13] " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " والآخر يحكم على الناس بمقياس الاتجاه العقدي في الأمور الخلافية، فأثنى الأول على زميل لهما باتصافه بالورع والتقوى، وهو ممن ينتقده الثاني في بعض مسائل العقيدة، فقال: ليته لم يكن كذلك، فهو يرى أن كونه متوسطًا في جانب التقوى مع ما هو فيه من خلل عقائدي أخف ضررًا، ويريد منه أن يكون معه في كل المفاهيم العقدية وإن كان ضعيفًا في التزامه واستقامته!! وهذا نوع من الخلل في موازين الحكم علىالمسلمين.
ومن مظاهر هذا الخلل أنك تجد بعض أفراد الفريقين المختلفين في بعض أمور العقيدة ينظر كل واحد منهما لأفراد الفريق الآخر نظرة بغض ونفور، وإذا كان بعض هؤلاء مسؤولين فإنه يكفي في حرمان أفراد الفريق الآخر من المصالح والمناصب الدينية كونه من أفراد الفريق الآخر، ويجعلون أمر التقوى والكفاءة العلمية أمرًا ثانويًّا بعد الموافقة الكاملة في المنهج العقدي!!
وربما كان هذا السلوك -إضافة إلى ذلك- محكومًا بإرادة الانتقام من أفراد الفريق الآخر إذا سبقت منهم معاملة بهذا السلوك، فتتحول العملية إلى صراع وتنافس ذميم بين إخوة يجمعهم هدف واحد؛ هو ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة، ويسيرون على شريعة واحدة وإن اختلفت أفهامهم في بعض تفاصيلها.
إن الربط بين الخلاف في أمور الدين وبين البغض والبراءة يفرق جماعة المسلمين، وإن الذين يستفيدون من ذلك هم أعداء المسلمين، وهذا الاعتقاد القلبي في بغض المخالفين والبراءة منهم قد لا يتجاوز في البداية حدود النقد، وربما تجاوز ذلك إلى عدم السلام على المخالفين وعدم الصلاة خلفهم وعدم مجالستهم! ولكنه قد يتطور بعد ذلك إلى منابذة وتناحر!! ولا يمكن لهؤلاء المتناحرين أن يواجهوا أعداءهم بقوة؛ لأن أغلب طاقتهم مصروف للتناحر فيما بينهم.
مثل من آثار الاعتدال في الحكم على المخالفين:
لقد جرَتْ لي في تطبيق هذا المنهج قصة أذكرها وإن كانت من باب الحديث عن النفس؛ لما فيها من العبر النافعة:
([1]) البخاري (3476)، في أحاديث الأنبياء.
([2]) البخاري (4905)، في التفسير.
([3]) جمع أنف، وذلك كناية عن الغضب الشديد.
([4]) سيرة ابن هشام (3/ 375).
([5]) مجلة المجتمع، عدد (790).
ـ[خلوصي]ــــــــ[25 Nov 2008, 05:59 م]ـ
مثل من آثار الاعتدال في الحكم على المخالفين
لقد جرَتْ لي في تطبيق هذا المنهج قصة أذكرها وإن كانت من باب الحديث عن النفس؛ لما فيها من العبر النافعة.
هذه القصة تتلخص في أنني كنت مدرسًا في معهد الحرم المكي ما بين عامي سبعة وثمانين وثلاثمائة وألف وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وكان من بين طلاب ذلك المعهد طالب من اليمن نبيهٌ، قوي الشخصية، متصلب في التمسك بما يعتقده، وقد كنت أدرِّس طلاب المعهد في السنة الرابعة منه في مادة التوحيد رسالة "الواسطية" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فاعترض ذلك الطالب بشدة على موضوع إثبات جميع الصفات، وظل يناقش في كثير من الدروس ذلك العام، وكنت ألاطفه وأفتح له صدري على الرغم من انفعاله الشديد في أثناء المناقشات، وكنت أُقدِّر فيه اتصافه بالتقوى والحماسة الدينية والدفاع بقوة عما يراه هو الحق، ولما حضر الاختبار كتب ما كنت قررته في الدروس، ثم كتب: هذا ما قرره الشيخ، والذي أعتقده هو كذا كذا، وكتب معتقده في ذلك، وقد قدرت له هذه الصراحة فأعطيته الدرجة الكاملة في المادة!!
وفي السنة الخامسة للمعهد درَّست الطلاب رسالة "الفتوى الحموية" للإمام ابن تيمية، وسار معي ذلك الطالب مثل سيره في العام الماضي، وعاملته بالمعاملة نفسها، وكتب في الاختبار مثل ما كتبه في العام الماضي، وأعطيته الدرجة الكاملة!
وفي السنة السادسة درَّست الطلاب رسالة "التدمرية" للإمام ابن تيمية، وفي أثناء الشرح والتقرير قال ذلك الطالب: أما الآن؛ فإن الشيخ -يعني ابن تيمية- لم يترك مجالاً للمعارضين، ثم سار معي في الدراسة من غير مناقشة، وظهر منه الاقتناع بما قرره الإمام ابن تيمية في توحيد الأسماء والصفات.
¥