تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان في أثناء إقامته ببخارى يأتي إليه بعض أهل العلم، فيُظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإقامة ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك، فقال حريث بن أبي الورقاء وغيره: هذا رجل مُشغِب، وهو يفسد علينا هذه المدينة، وقد أخرجه محمد بن يحيى من نيسابور وهو إمام أهل الحديث، فاحتجوا عليه بابن يحيى واستعانوا عليه بالسلطان في نفيه من البلد، فأُخرج، وكان محمد بن إسماعيل ورعًا يتجنب السلاطين ولا يدخل عليهم.

ولما قدم أبو عبدالله البخاري "مرو" استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله، فقال له أحمد: يا أبا عبدالله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكنَّ العامة لا تحمل ذا عنك، فقال البخاري: إني أخشى النار؛ أُسألُ عن شيء أعلمه حقًّا أن أقول غيره، فانصرف عنه أحمد بن سيار.

وأخيرًا هوى العملاق

بعد ما طُعن من الأقربين؛

من أهل الحديث الذين هم خاصته وزملاؤه!

فأُخرج من بخارى، بلده التي ولد فيها ونشأ بين ربوعها، وكان لقرية "خَرْتَنْك" القريبة من سمرقند شرف كبير؛ أن ثوى بها ذلك الإمام الكبير، حيث مرض وتوفي بها ودفن في أحضانها!!

وفي ذكر وفاته يقول الحافظ الذهبي: قال ابن عدي: سمعت عبدالقدوس بن عبدالجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى "خرتنك" قريةٍ على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات!! وقبره بـ "خرتنك".

وذكر الذهبي عن ابن عدي قال: سمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا ([3]).

وهكذا ابتُلي هذا الإمام الجليل الذي اتفق أهل زمانه ومن جاء بعدهم على إمامته في الحديث، مع اجتنابه للفظ الذي يحتمل أمرين، وتعبيره باللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا المعنى الصحيح.

والذين جابهوه وتخلوا عن درسه لمجرد هذا القول قد أوغلوا في الغلو والتنطع، وقد أساؤوا حينما ربَّوا طلاب العلم على الغلو، فأصبح الرجوع عن خط الغلو إلى الاعتدال مُؤْذِنًا بقيام فتنة وبلاء مستطير.

ولقد أصبح هذا الإمام الكبير طريدًا في بلاده، وفي كل بلد يذهب إليه من بلاد خراسان وما وراء النهر تثار ضده تلك الفتنة.

إن الخلاف الحقيقي يحتمله الاجتهاد إذا صدر من علماء مجتهدين ويُعذر فيه المخطئ، فكيف بهذا الخلاف الوهمي الذي أُلزم فيه هذا العالم الجليل بلازم قوله مما لم يقصده ولم ينطق به، بل تبرأ منه.

إن مصدر تلك الفتنة وأمثالها هو الغلو في ردِّ البدع الشائعة؛ حيث يتحول المدافعون عن السنة إلى الغلو والإفراط في سدِّ كل الذرائع الموصلة إلى تلك البدع، وفي سبيل ذلك يحرِّمون ما لم يحرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتدعون بدعًا مُقابِلة في الغلو، ويحاسبون المسلمين على الإخلال بها أشد من محاسبتهم على الإخلال بالواجبات الشرعية أحيانًا، فإذا ظهر علماء يدعون إلى الاعتدال في تلك القضايا وُصفوا بالأوصاف الشنيعة، وشُنَّت عليهم الحملات الفظيعة حتى يسكتوا ويسلِّموا لأولئك الغلاة بدعهم التي دعوا المسلمين إليها!!

والنفوس -عادة- ميالة إلى الغلو والنقد في الغالب، فإذا برز عالم أو علماء يدعون إلى مثل هذا المنهج سارع إلى الاستجابة كل إنسان يميل مع عاطفته ولا يحكِّم عقله،

وأكثر أتباع هؤلاء ممن لم يتعمقوا في العلم ولم يتلقوا تربية كافية في الأدب العلمي،

كما هو الحال في أولئك الطلاب الذين ملؤوا الدار وما حولها لأخذ العلم عن الإمام البخاري، فلما سئل ذلك السؤال وأجاب بجوابه المعتدل وحَمَله دعاة الفتنة على غير محمله انصرفوا عنه جميعًا،

وكأنَّ العلم كله قد تجمع في تلك القضية التي قد وُضع في تصورهم أنها من أهم القضايا،

وأنها مَحَكُّ الحكم على أهل العلم،

ومعقد الولاء لهم أو البراءة منهم.

فما أبعد هؤلاء عن منهج السلف الصالح الذي يدَّعون أنهم ثابتون عليه وأنهم حماته ورواده!! لقد اتهم أولئك الغلاة الإمام البخاري بالابتداع في الدين، وذلك حينما فصَّل الكلام في مسألة اللفظ والملفوظ،

والحقيقة أنهم هم المبتدعة؛ لأنهم يمتحنون الناس في عقائدهم،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير