تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأمّا المصالح الأخروية، فإدراكها أبعد عن مجاري العقول من جهة وَضْع أسبابها، وذلك كالعبادات مثلا، فإنّ العقل لا شعور له بها على الجملة، فضلا عن العلم بها تفصيلا، وأيضا فالعقل لو تُرك ونفسه لما جزم بوجود الدار الآخرة التي عليها مدار السعادة الأبدية، بل ليس له فيها إلا تجويز الوجود أو عدمه، كما هو شأن العقل في الحكم على الممكنات.

والشرائع ـ كما هو معلوم ـ لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء أيضا لم تزل تتواتر على البشر من لدن آدم عليه السلام إلى أن ختمت الشرائع بالشريعة المحمدية الإسلامية ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ـ و التي أمِرنا معاشر المكلَّفين كافة بالاعتصام بها والاحتكام إليها، ممثلةً في مصادرها الأساسية: وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وما يتفرع عنهما من أصول الأحكام الشرعية العلمية والعملية.

وحيث لا يمكننا الاعتصام بتلك المصادر ولا الوثوق منها إلا إذا كانت معصومة محفوظة من أيدي العابثين، ومطهرة من تحريفات المحرِّفين، تفضّل الله تعالى علينا بحفظها حفظا كاملا، إمّا مباشرة كما وقع للقرآن العظيم حيث قال عز من قائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، أو حفظا غير مباشر كما وقع لباقي المصادر التشريعية، وذلك عن طريق تسخير العلماء الصادقين والأئمة المرضيين الذين تولوا حفظ السنة النبوية المطهرة تدوينا وتنقيحا، وقواعد الشريعة تقعيدًا وتأصيلاً، خلافا للشرائع السابقة التي طالتها أيدي التحريف، وتلاعبت بها أكف التزييف، فشُوِّهت عقائدها، وبدّلت أحكامها.

وقد مرت مراحل حفظ مصادر الدين الإسلامي بمحطات مهمة، ووقع ذلك الحفظ على تدرج محكَم بحسب الأحداث التاريخية والوقائع المستجدة وحاجة المجتمعات الإسلامية، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون من جميع تلك المصادر ما يُحتاج إليه، إما بتلقيهم ذلك من النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، أو بفهم من القرآن مباشرة لسهولة ذلك عليهم من حيث كونهم عربًا بصائرهم قد تنوّرت بفهم لغة القرآن حق الفهم، إضافة إلى بركة اقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحتاجوا مع ذلك إلى آلة يتوصلون بها لفهم مبانيه، ولا وسيلة يستعملونها لدرك معانيه، غير أنهم مع حفظهم للقرآن العظيم في صدورهم كانوا يكتبون ما يسمعون منه في الرقاع واللخاف وغيرها لحكمة ظهرت فيما بعد وهو أن ذلك سيكون وسيلة إلى حفظه.

فلما استحر القتل في القُراء، وخاف أبو بكر رضي الله عنه ضياع القرآن، جمعه في مصحف لإدراكه أن ذلك قد تعيّن وسيلةً إلى حفظه. ولمّا أحس عمر رضي الله عنه أنّ فهم الكتاب والسنة يحتاج إلى موصل لما فيهما من دقائق الإشارات وغرائب العبارات حضّ على رواية الشعر وتعلمه، فقال رضي الله عنه في خطبته: عليكم بديوانكم. قيل وما هو؟ قال: شعر الجاهلية، ففيه معنى كتابكم. ولما خشي عثمان رضي الله عنه اختلاف الناس جمع القرآن في المصاحف لعِلْمِه أن ذلك صار وسيلة إلى ضبطه وارتفاع النزاع فيه، ولما سمع عليّ رضي الله عنه اللحن وخاف ضياع لغة القرآن وضع النحو لعلمه أنّه وسيلة إلى حفظ اللسان العربي، وحفظه وسيلة إلى فهم معاني الكتاب والسنّة اللذين عليهما مدار الشريعة الإسلامية، ولمّا علم مهرة الصحابة والتابعين أنه ليس كل أحد يقوم بفهم معاني القرآن اشتغلوا بتفسيره، ودوّنوا التفسير نصحا لمن بعدهم، ودونوا الأحاديث النبوية لأنّ ذلك وسيلة إلى حفظ ما وقع به التكليف، وهو وسيلة إلى الامتثال لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه.

ولمّا كان ما يُنقَل من الأحاديث ليس كله متواترًا ولا متفقا على صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل منه الصحيح وغيره، واحتاج أئمة الدين إلى تمييز المعمول به من غيره، وإلى معرفة تلقي ذلك وتبليغه، أحدثوا صناعة الحديث وما فيها من الاصطلاحات والألقاب، ولمّا كانت الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنّة منها ما يرجع إلى كيفية عمل، ومنها ما يرجع إلى اعتقاد صرف، والأولى لا تتناهى كثرة فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة، فنيطت بأدلة كلية من عمومات وعلل تفصيلية تستنبط منها عند الحاجة، فجمعوا ذلك ودونوه وسموا العلم الحاصل لهم عنها فقهًا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير