تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولمّا اختلفوا في استنباط المسائل المستجدات، واحتاجوا في الجواب عن كل نازلة نازلة إلى مقدمات كلية، كل مقدمة منها ينبني عليها كثير من الأحكام، وربما التبست ووقع فيها الاختلاف حتى تشعبوا شعبا وافترقوا على مذاهب، لم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم، وإعانة لهم على درك الحقائق، فدونوا ذلك وسموه أصول الفقه.

وأمّا الاعتقادات فقد كانت في صدر الإسلام سليمة، ولمّا تكاثرت الأهواء والشِّيَع، وافترقت الأمة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم على فِرَق، وكثر الخبط في الدين، وعظمت على الحق شُبَهُ المبطلين، انتهض علماءُ الأمة وعظماءُ الملة إلى مناضلة المبطلين باللسان، كما كان الصدر الأول يناضلون عن الدين بالسنان، وأعدوا لجهاد المبطلين ما استطاعوا من قوّة، فاحتاجوا إلى مقدمات كلية، وقواعد عقلية، واصطلاحات وأوضاع يجعلونها على النزاع، ويتفقهون بها مقاصد القوم عند الدفاع، فدوّنوا ذلك العلم وسموه بأسماء منها «علم أصول الدين» و «علم الكلام»، وصار يعرّف فيما بعد بأنه: «علمٌ بأمور يُقتَدرُ مَعهُ على إثبات العقائد الدّينية على الغير وإلزامه إياها، وذلك بِإِيرَادِ الحُجَجِ عليها وَدَفْعِ الشُّبَهِ عنها»، ويعرف أيضا بـ «العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسَبِ من أدلتها اليقينية.»

وقد صار هذا العلم الجليل من أهم العلوم الإسلامية على الإطلاق، وآكدها باتفاق، نظرا لكونه كليا بالنسبة إليها، وسائرها جزئي بالنسبة إليه، وقد علل الشيخ شمس الدين الأصفهاني ذلك في أول شرحه على مطالع البيضاوي بأنّ قواعد الشرع ومعالِم الدين أصلُها الكتاب والسنة، والاستدلال بهما يتوقف على إثبات أنّ الله تعالى متكلِّمٌ مرسِل للرسل موحٍ إليهم، وهذه الأمور إنما تُعلَم على الوجه الصحيح من «علم الكلام» السُّنِّي، فيكون «علم الكلام» مبنى قواعد الشرع وأساسها، ورئيس معالم الدين وراسها.

ووضح ذلك حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في أول كتابه «المستصفى» مبيّنا أنّ العلوم منقسمة إلى عقلية ودينية، وكل واحد منهما ينقسم إلى كلي وجزئي، فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو «علم الكلام»، وسائرها من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية.

ووَجْهُ ذلك أن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصّة، والمحدِّث لا ينظر إلا في طرق ثبوت الحديث خاصّة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة، والمتكلِّم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو المعلوم، ثم يقسمه إلى موجود ومعدوم، ثم ينظر في الموجود فيقسمه إلى موجود قديم لا أول لوجوده، وموجود محدَث مسبوق بالعدم، ثم يقسم المحدَث إلى أقسامه التي تندرج ضمنها جميع المخلوقات، ويبين افتقارها في جميع الحالات، ثم ينظر في الموجود القديم فيبين أنه كامل غنيٌّ عن كل ما سواه، وأنه لا بد أن يكون واحدًا، وأن يكون متميزًا عن المخلوقات بأوصاف تجب له وبأمور تستحيل عليه، ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه، وأنّ العالَم فِعْلُه الجائز، وأنه لجوازه افتقر إلى موجِد، ويبين أيضا أن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات، وأن هذا الجائز واقع، وعند هذا ينقطع كلام المتكلم ويعزل العقلُ نفسه بعد أن أثبت صدق النبي، فيذعن لما جاء به ويعترف أنه يتلقى منه بالقبول ما يقول في أحكام الله وفي اليوم الآخر وسائر ما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي باستحالته؛ إذ الشرع لا يرد بما يخالف العقل، لكن يرد بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه.

فقد عرف من هذا أن «علم الكلام» هو أعم العلوم، حيث يبتدئ المتكلم نظره أوّلا في أعم الأشياء، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل المذكور فيثبت مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسِّر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدًا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره، والمحدّث يأخذ واحدًا خاصا وهو السنّة فينظر في طريق ثبوتها، والفقيه يأخذ واحدًا خاصا وهو فعل المكلَّف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة، ويأخذ الأصولي واحدًا خاصا وهو قول الرسول فينظر في وجه دلالته على الأحكام الشرعية، فكان «علم الكلام» هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، وهي جزئية بالإضافة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير