تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إليه. اهـ

وقد مر علم الدفاع عن الأصول الدينية، بعد ظهور المخالفين فيها من شتى الملل والنحل، بمراحل أساسية، فالمرحلة الأولى كان فيها الأئمة المحدّثون ـ أمثال الإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن حبان والدارقطني وغيرهم رضي الله عنهم ـ هم السابقون للقيام بواجب الدفاع عن العقائد الإسلامية بحسب ما ورد في عصرهم من الشبهات، فأثبتوا العقائد السليمة التي كان عليها السلفُ الصالح ودار حولها الجدال آنذاك، كخَلْقِه تعالى لأفعال العباد، وعموم تعلق إرادته سبحانه، وكون القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن رؤيته تعالى واقعة للمؤمنين في الدار الآخرة، وحقيّة سؤال الملكين، والصراط، والميزان، والشفاعة في خروج من دخل النار من عصاة الموحدين، وأن مرتكب الكبيرة من الموحدين مؤمن، وردوا على المخالفين في هذه الحقائق وأبطلوا أهواءهم فيها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية أساسًا.

وأمّا المرحلة الثانية التي تقوّت فيها شُبَه المخالفين، لا سيما مع إدخال المعتزلة بعض العلوم الفلسفية في مقالاتهم وما تخيلوه من الأدلة العقلية، فجادلوا في بعض دقائق مباحث الإلهيات كالصفات، ونفوا كثيرا من السمعيات، فاعتنى بالرد عليهم طائفة أخرى من علماء أهل السنة كعبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبي العباس القلانسي، والشيخ أبي الحسن الأشعري، وتلميذه ابن مجاهد البصري، وأبي الحسن الباهلي، والأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني، وأبي بكر بن فورك، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والحافظ البيهقي، وإمام الحرمين عبد الملك الجويني، ونحو هؤلاء من العلماء الذين اعتنوا بالرد على المخالفين والمناضلة عن الدين بالبراهين القطعية والقواطع السمعية، فكانوا ناصرين لمن تقدمهم من علماء الحديث بما رتبوه من الحُجَج القطعية وأبدوه من البراهين العقلية، قائمين بحجة الله ورسوله بعد الصحابة والتابعين.

وأمّا المرحلة الثالثة التي شهدت ظهور سلطان فكر الفلاسفة الإسلاميين الذين أحيوا العلوم الإلهية اليونانية وآلاتها المنطقية ـ كالفارابي وابن سينا ـ وأرادوا مطابقتها على نصوص العقائد الإسلامية، فخالفوا الكثير من المعاني الظاهرة الصريحة للنصوص الدينية، وحاولوا نقض العديد من قواعد العقائد الصحيحة، فتصدى للرد عليهم طائفة أخرى من علماء أهل السنة كحجة الإسلام الغزالي، والشيخ عبد الكريم الشهرستاني، وإمام المعقول والمنقول فخر الدين الرازي (ت 606هـ) «إمام المتكلمين، ذو الباع الواسع في تعليق العلوم، والاجتماع الشاسع من حقائق المنطوق والمفهوم، الذي انتظمت بقَدْرِه العظيم عقود الملة الإسلامية، وابتسمت بدرِّه النظيم ثغور الثغور المحمدية، الذي كان في العلوم الشرعية ـ تفسيرًا وفِقهًا وأصولا وغيرها ـ بحرًا لا يجارى، وبدرًا إلا أنه هُداه يشرق نهارا»، فتصدى لنقض القواعد الفلسفية، مستنِدًا في ذلك على القواطع النقلية والعقلية، وصنف كتبا كثيرة بيّن فيها الحق، وأظهر فيها الصدق، وردّ على الفلاسفة مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الباطلة، فكان كما وصفه ابن عُنين:

مَاتَتْ بِهِ بِدَعٌ تَمَادَى عُمرُهَا:: دَهْرًا وَكَادَ ظَلاَمُهَا لاَ يَنْجَلِي

وَعَلاَ بِهِ الإِسْلاَمُ أَرْفَعَ هَضْبَةٍ:: وَرَسَا سِوَاهُ فِي الحَضِيضِ الأَسْفَلِ

غَلِطَ امْرُؤٌ بِ «أَبِي عَلِيٍّ» قَاسَهُ:: هَيْهَاتَ قَصَّرَ عَنْ هُدَاهُ أَبُو عَلِي

لَوْ أَنَّ رَسْطَالِيسَ يَسْمَعُ لَفْظَةً:: مِنْ لَفْظِهِ لَعَرَتْهُ هِزَّةُ إِفْكَلِ

وَلَحَارَ بَطْلِيمُوسُ لَوْ لاَقاَهُ مِنْ:: بُرْهَانِهِ فِي كُلِّ شَكْلٍ مُشْكَلِ

وَلَوْ أَنَّهُمْ جُمِعُوا لَدَيْهِ تَيَقَّنُوا:: أَنَّ الفَضِيلَةَ لَمْ تَكُنْ لِلأَوَّلِ

وقد كانت مصنفات الإمام الفخر الرازي للعلماء الأفاضل موئلا، ولذوي النهى والألباب منزلا، يستضيئون بأنوارها، ويثابرون على اقتفاء آثارها، ويهتدون حين يتيهون بنجومها، ويسمرون بجميل ذكرها، ويعترفون بعلومها، ويغترفون من بحارها، كما كانت محل اهتمام المحققين النظار بالشرح والتعليق والنقد، والقصد الأساسي من وراء ذلك الدفاع عن العقائد الصحيحة التي جاء بها الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة.

ومن أواخر كتب الفخر في علم الكلام والتي حظيت بعناية العلماء كتاب «معالم أصول الدين» الذي لخص فيه زبدة أفكاره، وضمّنه صفوة أنظاره، فكان متنًا جديرًا بالبحث والشرح والتعليق، والنقد والتصحيح قَصْدَ التحقيق، وقد تصدى لذلك جملة من علماء أهل السنة والجماعة، منهم الشيخ المحقق شرف الدين ابن التلمساني: الإمام العالم بالفقه والأصلين، فشرح غوامضه، وكمّل نواقصه، وكشف عن مشكلاته، وحل معضلاته، فصار بدوره كتابًا لا يستغني عنه عالم فضلا عن طالب، ولا يزهد فيه زاهد فضلا عن راغب، كيف وقد أتى فيه على أهم مباحث علم الكلام، وحقق أبرز ما فيه من المطالب التي ينال بها المرام؟!

وقد وفّقنا الله تعالى بفضله للوقوف عليه والاستفادة منه، ثم يسّر لنا الاعتناء بمخطوطاته تصحيحًا وتحقيقا وإعدادا لطباعته ليعم النفع به، والله نسأل أن يجعل نشره عملا صالحا متقبلا تدوم فوائده بدوام وجوده، وأن يسد به ثغرة من ثغرات النقص الحاصلة في تحقيق كتب هذا العلم الجليل بهذا المنهج الحقي الأصيل، وبالله تعالى التوفيق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير