وتشتمل السور المكية -وهي ثلثا القرآن-[الكريم] على أصول الدين، وتشتمل السور المدنية على أصول الأحكام، وأصول الدين جماعها الإيمان بالله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] واليوم الأخر، والائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، وهي أمور تتصل بالعاطفة والوجدان: فالدعوة إليها والحث عليها يقتضيان الأسلوب الواضح القوي الموثّق الفعال بالقلب بقصصه الواعظة، وحكمه البالغة وأمثاله السامية، ووعده الخالب، ووعيده المخيف، ولذلك تجد أسلوبها قصير الآي، كثير السجع، رائع التشبيه، قوي المجاز.
وأما أصول الأحكام من عبادات ومعاملات فهي موضوع السور المدنية، والتعبير عنها يقتضي الأسلوب المحكم الجزل الهادئ، وهدوء البيان يستلزم طول الجمل وتفصيل الآي، ووضوح الغرض، على أن القرآن [الكريم] لا يصطنع في التشريع أساليب الفقه ولا تعريفات القانون، وإنما يسوق الأحكام في معرض الدعوة والهداية. لأن قصده الأول إنما هو إعلان التوحيد، وإظهار الدين، وتطهير القلوب من أوضار الضلالة والجهالة والشرك، ولأن الدولة الجديدة لم تكن في عهد الوحي من الاتساع وتشعب الاجتماع بحيث تطلب التشريع المفصل.
وبعد هذه العجالة من التمهيد نتعرض لتفسير القرآن الكريم بغير لغته، وهذا ما نعني به الترجمة التفسيرية أو الترجمة لمعاني القرآن [الكريم] والترجمة كما أسلفنا ينحصر جدواها في نقل المعاني دون الأساليب، وكلمة " الترجمة " على وجه عام تطلق في اللغة على معنيين:
الأول: نقل الكلام من لغة إلى أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم، كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.
الثاني: تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.
قال في تاج العروس: " والترجمان المُفَسِّرُ لِلِّسان، وقد تَرْجَمَهُ وتَرْجَمَ عَنْهُ: إِذا فَسَّر كَلامَه بِلِسانٍ آخَرَ، قاله الجوهريّ وقِيلَ: نَقَلَه مِن لُغَةٍ إلى أُخْرَى".
وقال الذهبي الترجمة تنقسم إلى قسمين: ترجمة حرفية وترجمة معنوية أو تفسيرية.
أما الترجمة الحرفية فهي نقل الكلام من لغة إلى أخرى مع الموافقة في النظم والترتيب، والمحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.
وأما الترجمة التفسيرية: فهي شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.
- الترجمة الحرفية للقرآن [الكريم]:
الترجمة الحرفية للقرآن [الكريم] لا يمكن أن تقوم مقام الأصل في تحصيل كل ما يقصد منه، فإن القرآن [الكريم] نزل على أسلوب الحوار والخطاب، وفي الحوار يعتمد علة فهم المُخَاطب ومعلوماته، فقد تفيد الإشارة إلى القصد بلفظ أو لفظين والمخاطب يفهم مغزى الكلام كله، ولأنه يعلم خلفيات الكلام والمدلول الصحيح للكلمات بحكم معرفته وسليقته.
وهذا لا يتيسر لقارئ الترجمة، اللهم إلا إذا كانت الترجمة مفسرة أو مذيلة بالشرح المستمد من الأحاديث النبوية الثابتة، وهناك آيات من القرآن [الكريم] تؤكد لنا أن الترجمة الحرفية تكاد تكون بحكم المستحيل بالنسبة للقرآن الكريم.
المثال الأول: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال: 7)
والقرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ولا في أي مكان أخر ما هو المقصود من الطائفتين وما هما؟ وأيهما كانت غير ذات الشوكة؟ وما هو المقصود من ذات الشوكة وغير ذات الشوكة؟ وإذن لا يمكن استيفاء فهم الآية بالترجمة الحرفية إن لم تكن مصحوبة بالشرح والتفصيل.
المثال الثاني: جاء في سورة التوبة: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (التوبة: 118).
فمن كان هؤلاء الثلاثة يا ترى؟ إن القرآن [الكريم] لم يذكر اسماءهم ولم يذكر وقعة تبوك، وما جاء في القرآن [الكريم] قصة كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع، ومن هنا تعجز الترجمة الحرفية عن الدلالة الواضحة على مدلول الآية إلا باستعانة من الرويات الصحيحة.
والمثال الثالث: [قوله سبحانه وتعالى]: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} (التوبة: 107).
¥