ـ[ابو مريم الجزائري]ــــــــ[14 Jun 2010, 12:50 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المحاضرة الثامنة
" نظرة في الإعجاز البياني القرآني"
الشيخ محمد الغزالي
المدير العام للدعوة الإسلامية – مصر
توطئة:
إن إعجاز القرآن الكريم حقيقة يقرها الوحي والعقل معا.
وبعد مرور أربعة عشر قرنا من الزمان، تقلبت فيها البشرية بين أطوار مختلفة ونالت فيها حظوظا من العلوم والمعارف الإنسانية والعلمية، ووصلت فيها إلى آفاق ضل عنها الرشد البشري أحقابا كثيرة ... بعد كل هذا يقف إعجاز القرآن [الكريم] حقيقة يقرها " التاريخ" أيضا.
فالوحي والعقل والتاريخ يجمعون على التفرد الإعجازي لهذا الكتاب الكريم.
وقد وعى المسلمون حقيقة الإعجاز القرآني منذ تلقوه ... ومنذ خرجت بهم كلمات الوحي من صحراء مكة المقفرة إلى عواصم الانحلال والوثنية الكبرى، فدكوا - تحت رايتها- قلاع الشرك والضلال ... وساحوا بها في أرجاء المعمورة ينشرون الحضارة والإيمان الصحيح ودعائم الحق وحقوق الإنسان، ويحررون بكلمات القرآن [الكريم] النفوس المعذبة، والأرواح المحاصرة، والعقول التائهة والأجساد المطحونة ..
أجل: منذ خرج المسلمون بكلمات ربهم، فنصروها وانتصروا بها، وهم يعرفون قدر المنحة الإلهية العظمى التي يمثلها القرآن الكريم، وبالتالي فلم يقصروا في الوقوف الذكي عند آياته البينات، ومنحوها أعمارهم يدرسونها من كل جوانبها اللغوية، والبيانية والتشريعية، والنفسية، والعلمية.
وكان بيان " إعجاز القرآن" [الكريم] مناط اهتمامهم الكبير، فصنفوا فيه المصنفات وتحاوروا حول حقيقته واجتهدوا فيه بين مصيب ومخطئ .. لكن إيمانهم "بالإعجاز" كان حقيقة كبرى لا تقل عن إيمانهم بطلوع الشمس من المشرق، وغروبها من المغرب، "فالإعجاز" القرآني يصل في عقولهم ووجدانهم إلى أن يكون حقيقة – فوق العقل والتاريخ ...
- إنه حقيقة كونية.
ونحن في كلمتنا هذه لن نتطرق إلى الجوانب النفسية والعلمية والتشريعية والتاريخية وغيرها من جوانب الإعجاز القرآني، وإنما نقصر حديثنا على وجه واحد وهو الإعجاز البياني منوهين إلى أن ما نكتبه إنما يخضع لإيجاز شديد، فالإعجاز البياني من أبرز نواحي الإعجاز القرآني، وقد كتبت فيه كتب طيبة، وما زال أهلا لأن تكتب فيه مؤلفات أخرى لا تحصى.
الإعجاز البياني:
إنني واحد من الألوف التي قرأت هذا القرآن الكريم، ومرت بمعانيه وغاياته مرور العابر حينا، ومرور المتفرس المتأمل حينا أخر ..
و القرآن الكريم ليس الكتاب الوحيد الذي طالعته، فقد طالعت مئات الكتب الأخرى على اختلاف موضوعاتها واقتربت من نفوس أصحابها ومن ألبابهم، وأذنت لهذه الكتب أن تترك آثارها في فكري، لأقلبها على مكث، وانتفع بما أراه نافعا وألفظ ما أراه باطلا ..
ومن اليسير علي وعلى أي قارئ مثلي أن نكوّن حكما معينا على الكتاب الذي تناوله، فقد اخلص من قراءة كتاب ما، ثم أقول: هذا المؤلف واسع الإطلاع ..
أو أقول: إن ثقافته غزيرة في الآداب الأجنبية، أو أنه طائل الثروة في الأدب العربي القديم، أو أنه ملم بآخر ما توصلت إليه الكشوف العلمية، أو أنه قصير الباع في إعطاء المعنى حقه، أو أنه مصطبغ بلون يساري، أو أنه من المعجبين بالفيلسوف الفلاني، أو أن في نفسه عقدة تميل بأسلوبه إلى الحدة في ناحية كذا، أو أنه مرن الفهم والإدراك ... الخ.
وقد أعجز عن استبانة الخصائص الإنسانية المتباينة في تأليف الرجال الذي طالعت نتاجهم الذهني، أو آثارهم الروحية.
وكثيرون غيري يجدون في أنفسهم هذه المقدرة.
وقد تلوت القرآن [الكريم] مرارا، ورجعت بصري في آياته وسوره، وحاولت أن أجد شبها بين الأثر النفسي والذهني لما يتب العلماء والأدباء، وبين الأثر النفسي والذهني لهذا القرآن [الكريم]، فلم أقع على شيء البتة.
وقد أحكم بأن كتابا ما صدر عن مؤلف في عصر كذا، أو أن جنسية هذا المؤلف ومزاجه وأهدافه هي كيت وكيت.
أما بعد قراءة القرآن [الكريم]، فأجزم بأن قائل هذا الكلام محيط بالسموات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر وأسرار النفوس، يتحدث إلى الناس تحدث السيد الحقيقي إلى عباده الذين خلقهم بقدرتهن ورباهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون في هالة من الجبروت المتعالي، يستحيل أن تلمح فيه شارة لتكلف أو إدعاء.
¥