لقد صنع القرآن [الكريم] من تلك الأمة العاجزة الضائعة أمة لم يعرف التاريخ مثلها عقيدة وإيمانا، أخوة ورحمة، وعدلا ووفاء، وأصبحوا كما قال احد المفكرين: ((طاقة زهر لا شوك فيها، وكتلة فيها الكفاية التامة في كل ناحية من نواحي الإنسانية، كتلة هي في غنى عن العالم، وليس العالم في غنى عنها، وضعت مدنيتها وأسست حكومتها، وليس لها عهد بها، فلن تضطر إلى ان تستعير رجلا من امة، أو تستعين في إدارتها بحكومة، أو ترسل بعثة إلى الخارج لتدرس أنظمة الحياة، وقواعد الحكم والقيادة، بل كان معتمدهم الوحيد " مقاصد القرآن [الكريم])).
نجحوا وانتصروا، وصنعوا حضارة إنسانية لم يعرف التاريخ مثلها في مختلف العصور، لأنهم اعتمدوا دستور السماء، وعملوا بأوامر ونواهي خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلحها وما يفسدها.
وتفلسف بعضهم في هذا العصر، ورأى أن مقاصد القرآن [الكريم] وأحكامه، قد مضى عهدها، وأنها إذا كانت تصلح بعهد الجمل والخيمة، فهي لا تصلح أمة أبعهد الطائرة والصاروخ، وناطحات السحاب.
إن كثيرا من السذج البسطاء، والجاهلين للقرآن [الكريم] ومقاصده والمتأرجحين بين الكفر والإيمان، يظنون أن العودة إلى القرآن [الكريم] والعمل بمقاصده معناه تحطيم المصانع والمعامل، وقطع السكك الحديدية، وإغلاق دور الثقافة والتعليم وتعطيل حركة الاكتشافات والاختراعات، وتعطيل العقل عن التفكير والاستنتاج، والاستضاءة بالشمع والزيت، واللجوء إلى الكهوف والمغاور للتعبد حتى يأتي الموت.
تفكير لا أسخف منه، ونظرية لا أدل على تبلد الإحساس وضيق الأفق منها، أيظن هذا بالقرآن [الكريم]، وتلك مقاصده؟
أيظن هذا بالقرآن [الكريم] وهو كتاب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} وكتاب: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض} و {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون} {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِق} و {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وكتاب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}؟؟
إن الحقيقة الناصعة التي يجب الرضوخ إليها هي أن الأمة الإسلامية، لن يكون لها وجود صحيح، ولن تحتل مركزها في الحياة، مركز التوجيه والقيادة الحضارية والثقافية الذي حدده الله لها في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إلا بالعودة إلى مقاصد القرآن الكريم، إلى فهمها فهما صحيحا، وتطبيقها تطبيقا شاملا في كل ميادين الحياة، في البيت والطريق، في المدرسة والمزرعة، في المحكمة والإدارة.
إن الأمل لوطيد في نهضة الشباب المباركة، وإقبالهم على القرآن [الكريم] يتفهمونه، ويسجلون أسراره ويحاولون تطبيقه، لكن عليهم أن يحذرون من أولئك الأميين الذين ينصبون أنفسهم في المساجد لشرح القرآن [الكريم] وهم جاهلون وقد يكونون أشد خطرا على القرآن [الكريم] وعلى الأمة من الذين يستعملونه للتطبيب، وكشف عالم الغيب، وقضاء الحاجات وحل الطلسمات، وتسخير الجن وتوسيع الرزق والتمائم والتعاويذ.
إن نظم القرآن [الكريم] وأحكامه ومقاصده يجب أن تؤخذ من أهل العلم والمعرفة، وإلا تعفن الوضع، وساءت العاقبة، وما أصعب أن يجتمع الجهل والعمى ويتعاونا مع الغرور.
وقد قلت وما أكثر ما قلت، وسأقول وما أكثر ما أقول إن شاء الله إن القرآن الكريم بمقاصده الحكيمة السامية هو الذي وحد المسلمين ويوحدهم، ويصنع منهم قوة مرهوبة الجانب، كما صنعها من قبل، وهو الذي جعلهم يرفعون ألوية النصر المبين في بدر ومكة واليرموك، والقادسية وحطين، وفي مختلف المعارك التحريرية التي خاضوها ضد الغزاة المستعمرين.
ولولا هذا الكتاب وما بثته مقاصده وعقائده في النفوس، من الإيمان بالله والثقة فيه واليقين في نصره، وما طبعت عليه هذه النفوس من العزة والكرامة والإباء ما انتصرت الجزائر في حربها الوحشية الضروس ضد فرنسا والحلف الأطلسي، ولما عشنا هذه الحياة السعيدة التي كان يحلم بها أجدادنا، ولما كان هذا الملتقى ملتقى القرآن الكريم.
فليتذكر من أنسته متعة الحرية وجمالها، أن المجاهدين الذين عزموا على تحرير الجزائر وحرروها، لم تكن لهم في أوائل الثورة سوى العصّي والمناجل والخناجر المصدّدة، وبنادق الصيد العتيقة المشلولة، وكانوا إذا هجموا على العدو وأطلقوا من حناجرهم كلمة "الله اكبر".
هذا ما عنّ لي ذكره، والموضوع ما يزال ممدودا متسعا، والحديث عنه شهي لذيذ، لأنه عن القرآن الكريم المنزل من رب العالمين.
أشكركم على حسن انتباهكم، وحفظكم الله ورعاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصادر والمراجع:
- مقاصد القرآن [الكريم] تأليف محمد الصالح الصديق.
- تفاسير الطبري، الألوسي، الزمخشري، الرازي.
- دائرة معارف القرن العشرين.
- بحث في التشريع الاسلامي تأليف محمد الصالح الصديق.
- كتاب " حكمة الاسلام " لأبي الفيض المنوفي.
¥