شرح الدكتور في تفصيل طويل المعاني التي احتواها القرآن الكريم والتي يستحيل بالبراهين الحاسمة أن تصدر عن بشر، وأحصى جملة الشبه التي يمكن أن تخطر ببال أي متردد مرتاب، ثم أجهز عليها.
ومضى يستعرض ما يقوله المستقصي في طلب الحقيقة، وبسط الإجابة في أدب وفقه ... اسمع إلى هذا البيان:
" ... فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن [الكريم] كان عجزا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن [الكريم] سرا من أسرار الإعجاز يسمو به قدرتهم، ولكن لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من نطاق هذا السر، لأني أقرأ القرآن [الكريم] فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية.
فمن حروفهم تركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه.
فأي جديد في مفردات القرآن [الكريم] لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن [الكريم] لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [(فصلت:44)].
وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنّها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء .. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا.
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة.
ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك.
وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك.
وينتقل الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز إلى خصائص الأسلوب القرآني، فيبين الأسباب التي بلغ بها درجة الإعجاز، ولولا الإعجاز ولولا أن الرجل حافظ فاقه لكتاب الله، وضليع مكين في آداب العربية، وعابد مخبت تكشف أمام بصيرته النيرة الحكم البالغات التي غابت عن غيره، ما استطاع أن يصور لنا هذه الخصائص ويجعلها منا رأي العين .. ونكتفي بنماذج قليلة من كلماته، لا تغنى البتة عن مدارسة الكتاب ذاته، قال:
" فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء نزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب الأذكياء، لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك - إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى. كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال .. فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، إلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله، وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا نجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد، يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد إقناع العقل وإمتاع العاطفة
¥