وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما: فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به. وأما الأخرى: فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم. والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين، ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية، والمتعة الوجدانية معًا. فهل رأيت هذا التمام من كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب. فأما الحكماء: فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك، واختلاب عاطفتك .. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف ونبو عن الطباع. وأما الشعراء: فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيًّا أو رشدًا، وأن يكون حقيقة أو تخيلاً!
فتراهم جادين هازلين، يستبكون وان كانوا لا يبكون ويطربون وإن كانوا لا يطربون. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ () أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ () وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [(الشعراء: 224 - 226)]. وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير فسل علماء النفس: هل رأيت أحدًا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟
ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس هل ترونها تعمل في النفس دفعة واحدة وبنسبة واحدة"؟
يجيبوك بلسان واحد: كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى، وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى جانب من هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا. وصدق الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4).
فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء؟!
وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم، أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب.
فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة عملية، قلت: هذا ثمرة الفكرة.
وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت هذه ثمرة العاطفة.
وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر، فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.
وأما أن أسلوبًا واحدًا، يتجه اتجاها واحدًا، يجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد، والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
فمن لك إذن بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟
فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. ذلك الله رب العالمين. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا، يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين. وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت. ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره، لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها. {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [(الزمر:23)]. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ () وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [(الطارق:13 - 14)] وكتب السيد هبة الدين الحسيني رسالة جيدة في إعجاز القرآن [الكريم] لخصها الأستاذ "عيسى صباغ " في هاتين النظرتين. يقول الشيخ " هبة
¥