تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مراقبة، وأشد بطشا وأعظم عقوبة ونكالا ً من ذلك، وحِما الله محارمه .. فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربّه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطّلع على كل ما يقول ويفعل وما ينوي لان قلبه وخشي الله تعالى وأحسن عمله لله .. ].

ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى .. أن الله تبارك وتعالى صرّح بالحكمة التي خلق الخلق من أجلها وهي أن يبتليهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا، ولم يقل أيهم أكثر عملا، فالابتلاء في إحسان العمل كما قال) وَهُوَ الّذِي خَلَقَ السَمَاواتِ والأرضِ فِي سِتّةِ أيّام وَكَانَ عَرشُهُ عَلَىَ المَاءِ لِيَبلُوَكُم أيّكُم أَحسَنُ عَمَلا (.

ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلقت هذه الأمور لأجلها هي أن يُبتلى، أن يُختبر بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصل إلى نجاحه في هذا الاختبار، ولهذا سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك بمحضر من الصحابة ليتعلّموا من، فقال: {أخبرني عن الإحسان؟} وهو الذي خُلقت هذه المخلوقات لأجل الاختبار فيه، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هو هذا الواعظ والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى شيء عليه مما يفعل خلقه، قال له: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وقال الله جل وعلا) اللهُ يَعلَمُ مَا تَحمِلُ كُلُّ أنثَى وَمَا تَغِيضُ الأرحَاُم وَمَا تَزدَاد وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِمقدَار عَالمُ الغَيبِ و الشَهَادةِ الكَبِيرُ المُتعَال سَوَاءٌ مِنكُم من أسَرَّ القَولَ ومن جَهَرَ بهِ ومَن هُوَ مُستَخفٍ بِاللّيلِ وسَارِبٌ بِالنَّهَار (وقال سبحانه) ومَا تَكُونُ فِي شَأن ٍ وَمَا تَتلُو مِنهُ من قُرءَان ولا تَعمَلُونَ مِن عَمَل ٍإلا كُنّا عَلَيكُم شُهُودَاً إذ تُفيِضُونَ فِيهِ ومَا يَعزُبُ عن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرضِ ولاَ فِي السَّمَاءِ ولا أصغَرَ مِن ذَلِكَ ولاَ أكبَر إلاَ فِي كِتَابٍ مُبِين ( ..

فلا تغفل أيها العاقل عن مراقبة من لا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة، ولا تشبع ولا تملّ من مراقبة الله فإنه تعالى لا يغفل عنها، ينظر إليك ويطّلع على ضميرك ويُحصي عليك مثاقيل الذر وموازين الخردل حتى يجزيك بذلك) إنّ اللهَ لا يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرّةٍ وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفهَا وَيُؤتِي مِن لَدُنهُ أجرًاً عَظِيمَاً ( ..

ويا أيها المؤمن .. إذا كنت في خلوتك عملت أعمالا ً، فإذا حضرك صبي أقلعت عن فعلك، وأحسنت جلوسك حياءً منه، فما حالك إذا اطلع عليك أمير أو كبير، فكيف إذا اطلع عليك ملك الملوك الذي يتصرّف في الكون كيف يشاء .. فراقب الله أيها العاقل في جميع حركاتك وسكناتك وخطراتك ولحظاتك، واجعل عملك كله لله الذي يقول) واللهُ يَعلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُم وكَانَ اللهُ عَلِيمَاً حَلِيمَا ً (وفي قوله تعالى) يَا بُنَّيَ إنَّهَا إن تَكُ مِثقَالَ حَبّة ٍ مِن خَردَل ٍ فتَكُن فِي صَخرَة ٍ أو فَي السَّمَاواتِ أو فَي الأرضِ يَأتِي بِهَا الله إنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِير (قال ابن سعدي: [أي لطُف في علمه حتى اطلع على البواطن والأسرار وخفايا القفار والبحار] والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله والعمل بطاعته مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح قلّ أو كثُر، وقال بعضهم: [من اتقى الله في ظاهره عن تناول الشبهات وأصلح باطنه بدوام مراقبة الله عز وجل، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. ]، وقيل لأحدهم: [متى يهشّ الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة، فقال: إذا علم أن عليه رقيبا].

وقال الإمام الشافعي رحمه الله:

صبرا ًجميلا ً ما أقرب الفرج من راقب الله في الأمور نجا

ومن صدق الله لم ينله أذى وما الرجاء يكون حيث رجا

وقال عمر ابن عبد العزيز:

ومن الناس من يعيش شقيّا جيفة الليل غافل اليقظة

فإذا كان ذا حياء ودين راقب الله واتقى الحفظة

إنما الناس سائر ومقيم والذي سار للمقيم عظة

قال ابن القيم: [مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سرّه حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، والمراقبة هي التعبّد لله باسمه الرقيب .. الحفيظ .. العليم .. السميع البصير .. فمن عقل هذه الأسماء، وتعبّد بمقتضاها حصلت له المراقبة] وقال: [المراقبة دوام علم العبد وتيقّنه باطلاع الله سبحانه على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم و اليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس، وكل طرفة عين ..

والذي يدفع العبد إلى أن يستشعر مراقبة الله له أمور عديدة، منها:

أولا ً: أن الله لا يخفى عليه شيء، وقد وكّل بالعبد ملائكة يرصدون عليه جميع أقواله وأعماله) إنَّ عليكم لحافظين* كراما ً كاتبين * يعلمون ما تفعلون (.

وثانيها: عظم أجر المؤمن باستشعاره لمراقبة الله، فمراقبة الله أكثر ثوابا ًمن قيام الليل، وصيام النهار، وإنفاق المال في سبيل الله ..

وثالثها: أن مراقبة الله ينتج عنها الإقدام على الطاعات، وترك الخطايا والسيئات، والندم والتوبة على ما وقع من العبد من زلل، قال تعالى) إنَّ الّذينَ اتقَوَا إذا مَسّهُم طائِفٌ مِنَ الشَيطَانِ تذكّروا فإذا هُم مُبصِرُون (.

ورابعها: أن العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة مربوطة بمراقبة الله، فمن راقب الله حفظه الله، ومن أضمر خلافه خذله الله، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الأجل ..

فيا أيها المؤمن .. اعلم أن مراقبتك لله .. من أعظم أعمالك الصالحة .. ومن أعظم ما يقرّبك إلى الله .. ومن أعظم ما يجعلك تأمن من معاصي الله، ويجعلك تُقدم على التوبة إلى الله، ويجعل الشياطين تبتعد عنك بإذن الله ..

أسأل الله جل وعلا أن يجعل في قلوبنا جميعا ًمراقبته .. اللهم اجعلنا يا حي يا قيوم نراقبك في جميع أعمالنا .. هذا والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ....

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير