وقد اشترك في هذا المؤتَمر سبعون عالماً من أنحاء العالم، وحضره أربعة وعشرون زائراً تقريباً. وقد طبعت جامعة برنستن أعمال ذلك المؤتمر في كتاب عام 1953م.
وقد أشار شفيق جبري إلى مشكلة ضيق الوقت المتاح لعرض البحوث في عدة مواضع، منها قوله عند قيامه لعرض بحثه أول يوم في المؤتمر:
ضيق الوقت ..
قال شفيق جبري: ولما نهضت للكلام قال لي الدكتور فيليب حتي وهو رئيس الجلسة: معك عشر دقائق! فاغتنمت الفرصة قبل الشروع في بياني وقلت: على قدر ما شعرتُ بكرم الأمريكان في هذه الديار شعرتُ ببخل الدكتور حتي، لقد كلفني الخوض في بحث طوله طول السموات والأرض وقال لي: معك عشر دقائق، فكأنه أراد أن أكون طيارة نفاثة من النفاثات في العقد، فأنا بدلاً من أن أبدأ بقولي على عادة الدكتور: بسم الله الرحمن الرحيم، فإني أبدأ بقولي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! (أرض السحر ص 25).
مناقشات المؤتمرات ...
قال شفيق جبري: (وبعد الفراغ من البيانين كثرت السؤالات، فتبين لي أن هذا الطرز من المناقشة مضيعة للوقت، يخرج رجال المؤتمر من الموضوع ثم يعودون إليه، ثم يعترضون ولا بد في هذه المؤتمرات من شيء من المزح والتنكيت حتى يخف عناء الجد. والمشهود فيها ميل الأميركان إلى المرح والراحة من حين إلى آخر، ففي كل ساعة يترك الأعضاء القاعة ويدخلون المقصف لشرب الشاي، فكأن النفوس يتعبها الصبر على الجد والتفكير .. )
وقال أيضاً: (ومن طبيعة المؤتمرات أن تنطلق الألسن في كل شيء، ولذلك لا تؤدي المباحث في المجالس العامة إلى نتائج قاطعة في كثير من الأوقات، على أن بعضهم يرون أن الألسن إذا أفاضت في كل شيء انكشفت الأمور، فتم الاهتداء إلى الحقيقة، قد يكون هذا صحيحاً من بعض الوجوه، وكيف كان الأمر فقد كان لمؤتمر برنستن نتيجة واحدة لا بأس بها، فقد وقف الأميركان وأساتذة الشرق على الآراء المختلفة، وهذه فائدة من فوائد المؤتمر.
دخل أحد الأميركان هذه المرة في المناقشات وكان دخوله ذا معنى، فقد أراد أن يبحث الباحثون عن نصوص جديدة للقرآن، وأظن أن القارئ لا يجهل الغاية من ذلك، ولكن هذه الفكرة مرت مر السحاب، وقيل لي إن هذا الأميركي راعٍ من رعاة إحدى كنائس البروتستان). (أرض السحر ص 28)
وقال: (كثرت المناقشات وأظرفها هذه الطريقة: يطرح أحدهم سؤالاً باللغة العربية ثم يطلب إلى أستاذ آخر أن ينقل سؤاله إلى اللغة الانجليزية، فتضيع المناقشة بين أصل السؤال وبين ترجمته، ثم يطرح على أستاذ سؤال باللغة العربية ويطلب إلى أستاذ آخر أن ينقله إلى اللغة الإنكليزية فيلقي الأستاذ الآخير السؤال باللغة نفسها أي اللغة العربية فيشتد الضحك، وهكذا تجد أن المناقشات لا بدء لها ولا منتهى.
وبعض المحاضرين يعرضون موضوعهم على الوجه الآتي: إنهم بدلاً من أن يعرضوا مبدأ واحداً فإنهم يدخلون في التفاصيل، فيفتحون باباً للاعتراضات الكثيرة ... )
ثم أشار إلى عدد من المناقشات المتناثرة بعد إحدى الجلسات وعلق عليها بقوله: (مناقشات طارت في الهواء كما يطير دخان السجائر) ... ص 36
وقال تعقيباً على ختام المؤتمر وثمرته:
(نخرج في هذا المساء من مؤتمر برنستن وقد شهدنا فيه كل شيء، سمعنا مباحث منسقة، وسمعنا مناقشات فوضى، رأينا أساتذة متزنين ورأينا أساتذة غايتهم الظهور، سمعنا سؤالات مطابقة للعقل وسمعنا سؤالات من ورائها التهديم، ولمسنا جموداً في العقول ولمسنا مرونة في الأذهان، وتبين لنا اعتدال في التفكير وتبين لنا اشتطاط في التجديد، ووقفنا على نيات مخبوءة تستعد للظهور وتخشى المقاومة.
كل هذا رأيناه في رجالات المؤتمر، أي في رجالات الشرق، وكيف كان الأمر إن مؤتمر الثقافة الإسلامية كان له صدى بعيد في أميركة، ففي كل جامعة من جامعاتها كانوا يسألونني: كيف كان المؤتمر؟ لا شك في أن جامعة برنستن لم تضع وقتها في خلق هذا المؤتمر ومن يدري فقد تنشط جامعات في المستقبل إلى خلق مؤتمرات من هذا النوع في ربوع أميركة كلها، فيتم التعارف والتقارب). ص 41
افتتاح مؤتمر مماثل في واشنطن بعد مؤتمر برنستن مباشرة حول الثقافة الإسلامية ..
قال شفيق جبري: (كان علي أن أحضر مؤتمر الثقافة الإسلامية في واشنطن ثلاثة أيام متوالية: 17 أيلول و 18 أيلول و 19 أيلول، في اليوم الأول جلستان، جلسة بعد العصر وجلسة بعد العشاء، وفي اليوم الثاني ثلاث جلسات جلسة في الصباح وجلسة بعد الظهر وجلسة بعد العشاء، وفي اليوم الثالث جلسة واحدة في غروب الشمس، لقد حضرت المجالس كلها، ولكنِّي أعترفُ في هذا المقام بأنَّ انتباهي قد قَلَّ، واهتمامي قد ضعُف، فكاد الضجرُ يدخل على صدري، فلو انتهى المؤتَمر في برنستن لكان هذا الانتهاء خيراً، فقد طفقت أشعر بأني أصبحت آلةً ميكانيكيةً لا إرادة لي في حركتها وسكونها، تأتي السيارة لتنقلني إلى المؤتمر، فأركب، ثم تأتي لتخرجني إلى الفندق فأخرج ولم تبق لي لذة في هذا كله، وإنما لذتي في البعد عن المؤتمر حيث طفقت أشعر بأني مقيد بالمجيء والذهاب، ولم أفطن إلى هذا الشعور في برنستن فقد كنت أحضر المؤتمر وأنصرف واللذة تملأ نفسي، ولستُ أدري لماذا أوشكت هذه اللذة أن تصير إلى ألم في واشنطن وأظن هذا ناشيء عن أن المؤتمر طالت أيامه ... ) أرض السحر 44
وفي كلام الأستاذ شفيق جبري ما يدل على أن بعض المشكلات التي نشكو منها اليوم هي هي المشكلات التي كانوا يشكون منها قبل ستين سنة في المؤتمرات، فضيق الوقت، وتزاحم الجلسات، والمناقشات غير المفيدة، هي بعض المشكلات التي لا تزال قائمة في المؤتمرات العلمية اليوم.
¥