خلال ما حققه من نجاح فكري واستعصاء علي كل سلطة لا تمثل تطلعات الناس وما قدمه في شعره من تصوير لخيبات آمالهم في قادتهم ومن ادعوا النضال ثم سقطوا وقسوته علي حراس الانظمة الدكتاتورية ووقوفه في وجه قوي التآمر وخفافيش التخلف والظلام ودأبه علي الغوص في ثنايا الواقع وتفسير أمراضه قد صار رمزا يختلط في الحديث عنه حتي عند بعض المثقفين المتميزين الحقيقي بالخيالي وصار الناس يزيدون في كل موقف وحكاية تحكي عنه شأن ما يفعلون حيال شخصياتهم الاسطورية المتوارثة.
ولكن البردوني كان في تلك الفترة مشغولا بمحاولة فهم الانكسارات الكبري .. التي تعرضنا لها محليا وعربيا وانسانيا .. ثائرا علي العصر ورداءته يحاكمه من خلال استدعاء بعض الشخصيات التاريخية مثل شخصية المتنبي .. في قصيدته الشهيرة 'وردة من دم المتنبي' التي ألقاها في القاهرة سنة 1982م في خمسينية شوقي وحافظ واحدثت صدي كبيرا في ذلك الحين:
من تداجي يا ابن الحسين
اداجي أوجها تستحق ركلا ولطما
أشتهي عالما سوي ذا زمانا
غير هذا غير ذا الحكم حاكما
أين أرمي روحي وجسمي وابني
لي كما أستطيب روحا وجسما
عبدالله البردوني
شاعر بصير وتجربة لا يمحوها الزمن (2)
أو شاعرا بالغربة يستنطق البيوت والمقاهي والشوارع والامواج والشجر والطير .. في سوداوية وقنوط بالغ المرارة.
لماذا المقطف الداني
بعيد عن يد العاني
لماذا الزهر آني
وليس الشوك بالآني
لماذا يقدر الأعتي
ويعيا المرهف الحاني
أأستفتيك يا أشجار؟
فوقي غير أغصاني
كومض الآل إبراقي
كلغو السكر اعلاني
وكالحدبات اثدائي
وكاللصقات ألواني
أأستفتي أروماتي
متي يطلعن أفناني
أريد مدي اضافيا
ثري من صنع اتقاني
وتاريخا خرافيا
أعلق فيه قمصاني
أيمكن كل مرفوض
وهذا الشوق إمكاني
وفي أثناء كل ذلك يتأمل الظواهر المتلاحقة والانتقال كل يوم من سييء الي أسوأ .. فيوغل في قراءة التاريخ الرسمي والشعبي يستحضر الاشباه والنظائر.
روح الشعب
يتبع السؤال بالسؤال ويضني لماذا بكيف حتي تتحول الاجابة الي سؤال آخر يبحث عن اجابات ..
وتشهد هذا الفترة بالذات إلحاح البردوني علي رمز المخلص أو المصطفي أو المهدي المنتظر .. الذي يمثل روح الشعب وزبدة الجماعة ونفس الانسانية .. والخلاصة النقية التي تنعقد عليها الآمال .. بعد أن مال الحال .. تتبلور هذا الفكرة من خلال ورودها في سياقات شعرية كثيرة عنده .. ثم تأخذ سمتها الكامل ثوريا وموقفا ورؤية وروحانية في قصيدة 'مصطفي' احدي أشهر قصائد البردوني حضورا في الوجدان
يا مصطفي أي سر
تحت القميص المنتف
هل أنت أرهف لمحا
لأن عودك انحف
أأنت أأخصب قلبا
لأن بيتك أعجف
لم أنت بالكل أحفي
من كل أذكي وأثقف
في التسعينيات كان البردوني يقطف بعض ثمار جهده نال جائزة العويس سنة 1993م .. واحتفي به في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية وكان في كتاباته شعرية وغير شعرية مشغولا بهموم الوحدة اليمنية وما نتج عنها .. وكان سنة 1990م بعد قيام الوحدة مباشرة .. قد تنبأ في احدي قصائده بما سيحدث حين قال في احدي قصائده
يا بنت أم الضمد قولي لنا
أي علي سوف يخصي علي
كما كان مشغولا بالاوضاع العربية عقب حرب الخليج الثانية. وبالتحولات العالمية عقب انهيار النموذج السوفيتي وماتبعه وكان مع ذلك لا يكل عن القراءة يوميا يتابع الجديد وبين الحين والآخر يثير معركة بكتاب يصدره أو رأي يقوله في محاضرة أو مقابلة صحفية. وفي آخر حياته نشر سيرته التي مات وقد أشرف علي إكمالها.
لا نستطيع ونحن نقرأ البردوني أن نفصل حياته عن ابداعه فكل حياته كانت مكرسة للابداع والكتابة اما فعلا يتحقق شعرا ودراسات مختلفة واما قراءة ومثاقفات يبحث من خلالها عن وجوه للتحقق الابداعي والفكري .. أشكالا ومضامين ورؤي.
¥