تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اخلاص البردوني لتجربته الشعرية ومثابرته علي تطويرها ومراقبته المرهفة لخطها البياني وانتقالاتها المختلفة وربطها بمختلف التيارات الابداعية منذ القصيدة الجاهلية وحتي قصيدة النثر في احدث نماذجها جعل قصيدة البردوني تبدو من بين كل قصائد شعراء العمود العربي الكبار أحفل بالمغايرة مغايرة الآخرين من شعراء العمود ومغايرة التجربة البردونية ذاتها لنفسها. فاذا كان البردوني قد بدأ في ديوانه الاول 'من أرض بلقيس' عمويا رومانسيا يلتقي مع أمثاله من كبار شعراء العمود العربي الذين يجايلونه أو يسبقونه بجيل أو جيلين كما يمتد من تراث عريق عرفه ووعاه فإنه في ديوانه الثاني 'في طريق الفجر' الذي صدر سنة 1966م كان قد بدأ رحلة المغايرة ومفارقة النموذج المألوف .. تماهيا مع منجز الحداثة الشعرية العاصف ووعيا بضرورة التفرد في خلق امكانيات جديدة للعمود الشعري تبقيه داخل مضمار الحياة غير أن القاريء لن يلمس هذا التوجه واضحا الا في ديوان الشاعر الثالث 'مدينة الغد' الصادر سنة 1970م حيث بدأت قصيدته تفارق الطابع البنائي المعتاد لقصيدة البيت لتبني نفسها بطريقة خاصة من داخل محتواها الخاص .. وقد ازداد ذلك وضوحا في دواوينه اللاحقة 'لعيني أم بلقيس' 1972م 'السفر الي الايام الحضر' 1975م 'وجوه دخانية في مرايا الليل' 1977م 'زمان بلا نوعية ' 1979 'ترجمة رملية لاعراس الغبار' 1983م 'كائنات الشوق الآخر' 1986م 'رواغ المصابيح' 1989م 'جواب العصور' 1991م 'رجعة الحكيم ابن زايد' 1994م وهي دواوين أكد فيها البردوني علي نزوعه الخاص الي التجديد وعمق في تجربته مغايرتها لتراث العمود الذي لم تعد تشبهه بأي حال من الاحوال ومغايرتها لنفسها بالاختلاف الملحوظ من ديوان الي ديوان من حيث التقنيات والتجريب وتخليق الامكانات من داخل اللغة نفسها والاستفادة من فتوحات القصيدة الحديثة بطرق ادائها المتجددة التي تعبر عن الموقف الشعوري بالصورة وتستعمل 'القناع' و'المونتاج' و'المنولوج' و'الديالوج' و'التناص' اضافة الي هدم الموضوع التقليدي لقصيدة البيت وتعبئتها بموضوع جديد وخاص.

علي الجانب الآخر جانب الرؤية والموقف والرسالة داخل القصيدة لعبت ثقافة البردوني الموسوعية ومعتقداته الفكرية ومواقفه ورؤاه الاجتماعية والسياسية والادبية دورا كبيرا في إحداث انتقالات واسعة بتجربة وموضوع قصيدته .. التي كان الثابت الوحيد فيها هو الانسان وضرورة تحقيق شروط انسانيته .. وعيشه الكريم مواطنا حرا لا يظلم ولا يستعبد ولا يستغل ولا يستغفل. ومن أجل ايصال هذا المفهوم الي المتلقي استعمل البردوني اساليب وطرقا شتي كتب القصيدة المحرضة المباشرة .. واستدعي التاريخ في لحظاته المظلمة وشخصياته الظالمة مقابل اللحظات الاخري المضيئة والشخصيات العادلة فيه وتغني بالشخصيات الشعبية الحكيمة واستنطق الارض عن حنوها علي ابنائها مؤنسنا خضرتها وثمارها الممزوجة بعرق الفلاحين ونبض آمالهم واتحادهم بها حياة ومصيرا ومشاعر تتلون بألوان أزهارها:

ذائب في الأرض إني نبتة

من حشاها شكلتني عن براعه

زرعت غصني وفيه انزرعت

اغصنت في قامتي زادت فراعه

وأنا أورقت في أغصانها

صرت من أقباس عينيها شعاعه

ورحل البردوني عن اثني عشر ديوانا وثمانية كتب منشورة وديوانين مخطوطين هما: 'رحلة ابن شاب قرناها' و'العشق في مرافيء القمر' وثلاثة كتب مخطوطة هي 'الجمهورية اليمنية' و'الجديد والمتجدد' و'سيرته الذاتية' ....

وها هي ذكراه تحل وقد تأكد لكل المثقفين أن البردوني الذي طبع اثر فوزه بجائزة العويس عشرات آلاف النسخ من كتبه التي كان يبيعها مروجو الصحف بأثمان يتساوي ثمن الكتاب فيها بثمن الصحيفة اليومية .. اختفت كل كتبه من المكتبات ولم تطبع لا اعماله الكاملة ولا كتبه ودواوينه التي مات وهي مخطوطة وكأن هناك قرارا بتغييبه واقصاء اسمه عن كل تكريم.

وعجز المثقفون اليمنيون الذين لا حول لهم ولا قوة عن فعل شيء يكسر هذا التعتيم العجيب، أما المثقفون من اهل السلطة القائمون علي اكبر المؤسسات الثقافية والعلمية في اليمن فالاكيد الذي لامراء فيه انهم يقفون وراء محاولات التغييب تلك والاسباب معروفة.

رحم الله البردوني الباقي الذي صدق عليه ما قاله في رثاء صديقه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري.

انهي طريقا مستهلا طريق

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير