تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إليه، وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز".

والمجاز باعتباره مصطلحا بلاغيا، يعتبر وسيلة فنية يلتجأ إليها للتحرر من الضيق اللفظي، وللاتساع في المعنى وتعميقه، وإلباسه حلة جديدة غير التي عرفها عند التعبير الحقيقي، لذلك حظي بعناية فائقة من لدن العلماء القدامى من نقاد وأصوليين وبلاغيين لما له من خصائص فنية، أهمها تحميل اللفظ معاني مستحدثة لا يستوعبها اللفظ نفسه في أصل وضعه الحقيقي. ولذلك نجد البلاغين يفرقون بين المعاني الأولى والمعاني الثانية للألفاظ، فالمعاني الأولى هي دلالات اللغة قبل أن تتطور، أو قبل أن يتصرف الأدباء في استعمالاتها، وأما المعاني الثانية فترتبط بالحالات النفسية والاجتماعية التي يعيش فيها المجتمع أو بعض أفراده. فإذا تأملنا قوله تعالى ?والله محيط بالكافرين?. نجد كلمة (محيط) تتضمن معناها الأصلي وهو الإحاطة، ولكنها على الصعيد المجازي تحمل دلالة بارزة جديدة، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية، فإحاطته تعالى هنا ليست إحاطة مكانية أو جسمية كإحاطة القلادة بالجيدة، أو السوار بالمعصم، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة خارجة عن حدود الإحاطات المتعارفة، فهي "إحاطة ذي القوة بمن ليس له قوة، وذي الحول بمن لا حول له، وكإحاطة ذي الشأن المتعالي، بمن لا يدانيه سيطرة وأعدادا".

وكما بحث البلاغيون في نوع العلاقة التي تربط اللفظ بمعناه، بحثوا كذلك في الألفاظ وهيئاتها والمعاني وأحوالها، وحددوا أوصافا للمعنى وأخرى للفظ. وقل بلاغي لم يعرض لما ينبغي أن يتوافر لكل منهما من أسباب الجودة ومظاهر الإتقان، وتعتبر صحيفة (بشر بن المعتمر) المعتزلي (ت.210هـ) من أقدم النصوص البلاغية التي عالجت قضية اللفظ والمعنى وحددت أوصافا لكل منهما، وأمدت الشاعر والأديب بالتوجيهات التي يسير على هداها في كل حال، ومما جاء في هذه الصحيفة "وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريما فليلتمس لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف للفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما كما يفسدهما ويهجنهما…فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت".

ويمكن أن يقال إن صحيفة بشر بن المعتمر قد حددت مجموعة من الأوصاف والشروط لكل من اللفظ والمعنى، يستحقان بها مرتبة الفصاحة والبلاغة. فلا يحسن الكلام حتى يكون قد جمع بين العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة، مع السلاسة والنصاعة والفخامة والشرف، ولعل أهم ما جاء في هذه الصحيفة تلك الفكرة التي صارت فيما بعد حجر الزاوية في مفهوم البلاغة عند النقاد والبلاغيين، ونعني بها فكرة (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، فالعبرة عند (بشر بن المعتمر) ليست بشرف اللفظ ولا بشرف المعنى، وإنما مدار الشرف هو مراعاة المقام والموازنة بين أقدار المعاني وأقدار المستمعين "فتجعل لكل طبقة كلاما، ولكل حال مقاما، حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات".

ما يستفاد من كلام (بشر بن المعتمر) و (أبي هلال العسكري) وغيرهما من البلاغيين في هذا الصدد، أن مطابقة الكلام لمقتضى الحال لا تتم إلا إذا وضع المتكلم أو الشاعر في حسبانه الموضوع أو الغرض الذي يتكلم فيه، بحيث يأتي كلامه متلائما معه مسايرا له، كما يضع في حسبانه المخاطب الذي يتوجه إليه بكلامه، فيكيف تعبيره اللغوي وفق الحال التي عليها هذا المخاطب، من علم بالموضوع أو جهل به أو إنكار له. ويمكن القول إن البلاغيين بمفهومهم السابق في رعاية المطابقة لمقتضى الحال قد أغفلوا مصدر الكلام نفسه، وهو المتكلم وما يمكن أن تضطرب به أعماقه "من مشاعر متباينة وأحاسيس معقدة تستحوذ عليه ولا يستطيع الإفلات منها، فيأتي كلامه تعبيرا عن ذاته، وتصويرا لمشاعره الكامنة في باطنه، والواقع أنه لا يمكن إغفال المتكلم أو التضحية به لحساب الموضوع أو المخاطب".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير