ومن يبن الأوصاف التي حددها البلاغيون للفظ، الجزالة والاستقامة ومشاكلة اللفظ للمعنى، ويقصد البلاغيون بجزالة اللفظ أن لا يكون غريبا نابيا، ولا سوقيا مبتذلا، ومعياره أن يكون بحيث تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها.
أما الاستقامة، فأن يكون اللفظ مستقيما من ناحية الجرس أو الدلالة أو التجانس مع قرائنه من الألفاظ، فيلائم اللفظ ما يجاوره، ويتسق مع الألفاظ التي تحيط به من حيث الجرس الموسيقي، ومن حيث مطابقة معناه لمعاني ما حوله من الألفاظ، فيقرن الغريب بمثله، والمتداول بمثله، حتى يكون "العمل الأدبي بناء سليما متسق الأجزاء، متراص اللبنات، تتحقق فيه الوحدة الفنية بين أجزاء العمل الأدبي".
وأما مشاكلة اللفظ للمعنى، فأن يكون اللفظ مشاكلا للمعنى إذا وقع موقعه من غير زيادة ولا نقصان، ولذا أخذ على الأعشى استخدام كلمة الرجل مكان الإنسان في قوله:
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا.
لأن الملامة تتجه للإنسان رجلا كان أو امرأة، ولا تخص الرجل وحده، فذكره الرجل هنا في مكان الإنسان معيب. ومن بين الأوصاف التي ارتضاها البلاغيون للمعنى، الشرف والصحة والإصابة في الوصف. أما شرف المعنى، فأن يقصد الشاعر إلى الإغراب واختيار الصفات الجيدة إذا وصف أو مدح، فإذا وصف وجب أن يكون موصوفه كريما، وإذا تغزل ذكر من أحوال محبوبه ما يمتدحه ذو الوجه الذي برح به الحب.
وأما الإصابة في الوصف، فأن يذكر المعاني التي هي ألصق بمثال الموصوف وينأى عن المعاني والصفات المجهولة. وأما صحة المعنى فيقصد به خلو المعنى من الخطأ، والمقصود به مخالفة العرف اللغوي أو التقليدي الذي تفرضه كل لغة على أهلها في المجاز والحقيقة على السواء، فمن الخطأ الذي سببه الجهل بالعرف اللغوي قول الشاعر: بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الدار كأني حمار.
فالعرف اللغوي جار على تشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة والقوة، ولذلك عيب على الشاعر تشبيه نفسه بالحمار، فالمعروف أن يشبه بالحمار في البلادة، لا في القوة.
ومن الخطأ الذي سببه الجهل بالعرف التقليدي قول العباس بن الأحنف: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
بدأ الشاعر فدل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن وأصاب، لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله (لتجمدا)، وظن أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرة والسلامة من الحزن، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن…وغلط فيما ظن. وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين مع أن الحال حال بكاء، ويستراب في أن لا تبكي العين.
وهكذا يتضح أن نظرية الفصل بين اللفظ ومعناه، قد سيطرت على البلاغيين كما سيطرت على النقاد، فشرعوا لكل عنصر مقاييس للجودة والرداءة، وحددوا لكل طرف أوصافه الخاصة به التي تزيده بهاء وحسنا، أو قبحا وخشونة، بل لقد توسع البلاغيون في النظر إلى الألفاظ في علاقتها بمعانيها. فهناك اللفظ العذب، واللفظ القوي، واللفظ الرقيق المستحب، وهناك اللفظ النابي القلق المستكره. ومن الألفاظ ما يحسن في الرثاء ولا يملح في المديح، ويستحب في النسيب ويقبح في الرثاء أو الفخر أو المدح. وفي المقابل هناك المعنى العميق، والمعنى الخفيف، والمعنى البعيد، والمعنى السخيف، والمعنى الجزل، فلكل مقام مقال. ولا أدل على هذا التقنين البلاغي لكل من اللفظ والمعنى من قول الجاحظ "أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم دلا متعشقا، صار في قلبك أحلى ولصدرك أملا. والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة وأكسبت الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت وحسب ما زخرفت، فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري".
¥