تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وانضمت إلى ذلك بواعث أخرى، بعضها قومي عربي، يرجع إلى أن العرب يعتزون بلغتهم اعتزازا شديدا، وهو اعتزاز جعلهم يخشون عليها من الفساد حين امتزجوا بالأعاجم، مما جعلهم يحرصون على رسم أوضاعها؛ خوفا من الفناء والذوبان في اللغات الأعجمية، وبجانب ذلك كانت هناك بواعث اجتماعية ترجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست بحاجتها الشديدة لمن يرسم لها أوضاع العربية في إعرابها وتصريفها؛ حتى تتمثّلها تمثلا مستقيما، وتتقن النطق بأساليبها نطقا سليما.

كل ذلك معناه أن بواعث متشابكة دفعت دفعا إلى وضع النحو، ولابد أن نضيف إلى ذلك رقي العقل العربي، ونمو طاقته الذهنية نموا أعدّه للنهوض برصد الظواهر اللغوية، وتسجيل الرسوم النحوية تسجيلا تطرد فيه القواعد، وتنتظم الأقيسة انتظاما يهيئ لنشوء علم النحو، ووضع قوانينه الجامعة المشتقة من الاستقصاء الدقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة ومن المعرفة التامة بخواصها وأوضاعها الإعرابية. (المدارس النحوية لشوقي ضيف/المقدمة.)

ولعل أول نحوي حقيقي هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117 هجرية) الذي يقول عنه ابن سلام بعد ذكره أبا الأسود: "ثم من بعدهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي؛ فكان أول من بعج النحو، ومد القياس والعلل، وأبو عمرو بن العلاء بقي بعده طويلا، وكان ابن أبي إسحاق أشد تجريدا للقياس، وأبو عمرو أوسع علما بكلام العرب".

وتم كل ذلك بالبصرة التي سبقت إلى وضع قواعد العربية، يقول ابن سلام: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة، وبالنحو ولغات العرب عناية".

وعلى هذا بدأ التفكير اللغوي عند العرب بمعناه العلمي على أساس الوصفية، الذي يتمثل في جمع المادة وتصنيفها واستنباط القواعد وتحكيمها.

وفي البصرة كان الخليل بن أحمد الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس، وهو أول من استخرج علم العروض وعمل كتاب العين، أما سيبويه فهو صاحب أول مؤلف في النحو العربي يصل إلينا.

ودراسة الخليل للأصوات كانت نموذجا آخر للنظر العلمي؛ فقد رتب الأصول ترتيبا صوتيا حسب المدرج والمخرج، كما اعتمد على الجانب السمعي كما يتمثل في وقع الصوت على الأذن، وصنف حروف المد واللين وذكر صفاتها.

وبهذا استطاع الخليل وسيبويه أن يقدما للعربية نموذجا بنيويا لوصف العربية صوتيا وصرفيا ونحويا ومعجميا، لم يستطع أحد أن ينال منه أو يقدم بديلا عنه حتى قال قائلهم: "من أراد أن يعمل كتابا في النحو بعد سيبويه فليستح ".

فمثلت مؤلفات الخليل وسيبويه أغلالا على العقل والعلم مدة من الزمن، اكتفى فيه العلماء بشرح مؤلفاتهم وتحقيقها، حتى نشأت مناهج جديدة في التفكير تختلف عما جاء في هذه الكتب ثم ما لبثت أن أصبحت ثورة على المنهج البصري على يد ابن مضاء القرطبي (ت 592 هـ).

طبقات النحاة:

إن طريقة دراسة النحو لم تشذ عما كان مألوفا في تلك الأيام، وأعني بذلك الطريقة القائمة على التلقي الشفهي أو المقرون بالإملاء، أو ببعض القراءات لمؤلفات إن وجد شيء منها. فكان المتعلم يأخذ عن أستاذه ما يلقيه أو يملي عليه، أو كان يقرأ الكتب ويشرح عباراتها، ويعلق على مسائلها، ثم يضيف إلى ما يتكوّن لديه من آراء.

وكان أولئك الطلاب، بعد أن تكتمل معلوماتهم، وبعد أن يأخذوا نصيبهم من التعلم والمعرفة، يعودون إلى أدب من سبقهم بإقامة حلقات للدرس أو أماكن للبحث، تقصدها طائفة من الطلاب الجدد كي يأخذوا عنهم، ويرووا ما سمعوا وما دونوا .. وبذلك نشأت طبقات أو مدارس متعاقبة، كان أشهرها طبقات من البصريين، وخمس طبقات من الكوفيين، برز في كل طبقة عدد من العلماء اهتموا بناحية أو بأخرى من نواحي النحو.

ومن علماء البصرة: (سأستعرض أشهر رجال الطبقات، وأبرز علمائها):

الطبقة الأولى: أبو الأسود الدؤلي. وقد أخذ عنه ثلاثة هم: عنبسة الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر.

الطبقة الثانية: أبو عمرو بن العلاء، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر الثقفي، وقد اهتمت هذه الطبقة بالقياس والتعليل وبالعناية بتتبع النصوص، واستقراء الشواهد، ومن ثم جمع مسائل النحو المعروفة في ذلك الوقت في كتب قامت على وضعها ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير