تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم انظر إلى جواب القسم وهو قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) التين) كيف تناسب مع المُقسَم به تناسباً لطيفاً ولاءمه ملاءمة بديعة. فإنه أقسم بالرسالات على بداية الإنسان ونهايته 12 فقال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) " وهذه بدايته، ثم قال: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) " وهذه نهايته.

"ثم لما كان الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم مَنْ أجاب ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين. فذكر حال الأكثرين وهو المردودون إلى أسفل سافلين 13 (والآخرين وهم المؤمنون الذين لهم أجر غير ممنون.

ولما كانت الرسالات إنما هي منهج للإنسان وشريعة له، كان الجواب يتعلق بالإنسان طبيعة ومنهجاً، فذكر طبيعة الإنسان في قوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) " وذكر المنهج في قوله: "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) ".

وفي هذه إشارة إلى أن المنهج لا بد أن يكون متلائماً مع الطبيعة البشرية غير مناقض لها وإلا فشل.

فكان الجواب كما ترى أوفى جواب وأكمله وأنسب شيء لما قبله وما بعده.

ثم انظر من ناحية أخرى إلى قوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) " فإنه أسند الخلق إلى نفسه ولم يبنه للمجهول، وذلك أنه موطن بيان عظيم قدرته وحسن فعله وبديع صنعه فأسند ذلك إلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثل هذا المقام وفي مقام النعمة والتفضّل يسند الأمر إلى نفسه، قال تعالى: "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) " الأعراف.

وقال: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) " يس

فانظر كيف أسند الخلق في مقام النعمة والتفضّل إلى ذاته في حين قال: "وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) " النساء ببناء الفعل للمجهول لما كان القصد بيان نقص الإنسان وضعفه. وقال: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ (37) " الأنبياء، وقال: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) " المعارج.

فانظر إلى الفرق بين المقامين، وقد مرّ شيء من هذا في موطن سابق.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أسند الخلق إلى نفسه لأن المقام مقام بيان منهج للإنسان، فأراد أن يبين أن واضع المنهج للإنسان هو خالق الإنسان ولا أحد غيره أعلم بما يصلح له وما هو أنسب له، ولو بنى الفعل للمجهول لم يفهم ذلك صراحة.

فأنت ترى أن إسناد الخلق إلى ذات الله العلية أنسب شيء في هذا المقام. وقد تقول: ولم أسند الرد إلى أسفل سافلين إلى نفسه فقال: " (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) " وهذا ليس مقام تفضّل ولا بيان نعمة؟

فنقول: إن هذا الإسناد أنسب شيء ههنا ولا يليق غيره، وذلك أنه أراد أن يذكر أن بيده البداية والنهاية، وأنه القادر أولاً وأخيراً لا معقّب لحكمه يفعل ما يشاء في البداية والختام، وهذا لا يكون إلا بإسناد الأمر إلى ذاته العليّة.

ألا ترى أنه لو قال: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رًدّ أسفل سافلين) لكان يُفهم ذاك أن هناك رادّاً غيره يفسد خلقته ويهدم ما بناه؟

ومعنى قوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) " أنه صيّره على أحسن ما يكون في الصورة والمعنى والإدراك وفي كل ما هو أحسن 14 من الأمور المادية والمعنوية.

وقال بعدها "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) " فجاء بـ (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي، لأن كونه أسفل سافلين لا يعاقب خلقه بل يتراخى عنه في الزمن، فهي من حيث الوقت تفيد التراخي، كما أنها من حيث الرتبة تفيد التراخي، فرتبة كونه في أحسن تقويم تتراخى وتبعد عن رتبة كونه في أسفل سافلين، فثمة بَوْن بعيد بين الرتبتين فأفادت (ثم) ههنا التراخي الزماني والتراخي في الرتبة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير