تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واختلف في معنى (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) فذهب قسم من المفسرين إلى أن المقصود به أرذل العمر، والمُراد بذلك: الهرم وضعف القُوى الظاهرة والباطنة وذهول العقل حتى يصير لا يعلم شيئاً 15

ومعنى الاستثناء على هذا أن الصالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع 16 يُكتب لهم في وقت شيخوختهم كما كان يُكتب لهم في وقت صِحّتهم وقوتهم وفي الحديث "إن المؤمن إذا رُدّ لأرذل العمر كُتِب له ما كان يعمل في قوّته" وذلك أجر غير ممنون 17 أي غير منقطع.

وذهب آخرون إلى أن المقصود به أسفل الأماكن السافلة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار.

ومعنى الاستثناء على هذا ظاهر، فالصالحون مستثنون من الرد إلى ذلك.

وركز بعضهم على الخصائص الروحية. جاء في ظلال القرآن: "والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها. فهو مهيّأ لأن يبلغ من الرِّفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين .. بينما هذا الإنسان مهيأ حين ينتكس لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) " حيث تُصبح البهائم أرفع وأقوم لاستقامتها على فطرتها ...

" (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6) " فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح. ويرتقون بها إلى الكمال المقدّر لها" 18

وظاهر أن معنى الآية يتسع لكل ما ذكروه، وهي تفيد أيضاً أن حياة غير المؤمن نكد وغمّ، وعيشة ضنك وشقاء قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) " طه وقال: "حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) " الحج.

فحياة هؤلاء هابطة سافلة بل هم في أسفل سافلين. ثم لننظر إلى الاستثناء وهو قوله تعالى: "إلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6) " فإنه استثنى من الرد أسفل سافلين مَنْ آمن وعمل صالحاً ولم يزد على ذلك، فلم يقل مثل ما قال في سورة العصر: "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) " وذلك لاختلاف الموطنين، فإن سورة العصر في بيان الخسران الذي يصيب الإنسان، وسورة التين فيما يُنجي من دركات النار، قال تعالى: "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) " العصر فبيّن لنا أن الإيمان والعمل الصالح يمنعه من الرد أسفل سافلين. ولكن لا يمنعه من الخسران الذي يفوته فيما لو تواصى بالحق وبالصبر فإن كلّ من ترك شيئاً من ذلك خسر شيئاً من الأجر الذي كان يربحه فيما لو فعله، فانظر الفرق بين الموطنين وبين الاستثنائين.

جاء في (التبيان): "وتأمل حكمة القرآن لما قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) فإنه ضيّق الاستثناء وخصصه فقال: "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) ولمّا قال (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) " وسّع الاستثناء وعممه فقال: "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6) " ولم يقل (وتواصوا) فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله. فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح فصار في خُسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين.

فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة. وقد تكون فرضاً على الأعيان، وقد تكون فرضاً على الكفاية وقد تكون مستحبّة.

والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب، والحق الذي يُستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يُستحب. فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به. وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم. فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء ". 19

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير