تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثالثاً: أن يُحتفظ بمساحات معقولة بين لغة الخطاب اليومي عبر وسائل الإعلام جميعاً، وبين لغة الفكر والأدب والإبداع في مجالاتهما، بحيث يكون هناك دائماً المثل الأعلى في استعمال اللغة، يتطلع إليه المتحدثون والكتاب على اختلاف طبقاتهم، ويسعون إلى الاقتداء به ويجتهدون للارتفاع إليه، فإذا عدم هذا المثل الراقي حلَّ محله مثل أدنى قيمة وأحط درجة، لا يربي ملكة ولا يصقل موهبة ولا يحافظ على اللغة، إن لم يسيء إليها ويفسدها.

والشرط الثالث هو من الأهمية بمكان، لأن انتفاء المثل الأعلى في اللغة يؤدي إلى هبوط حادّ في مستوى التعبير الشفاهي والكتابي على السواء، ويتسبَّب في شيوع اللهجات العامية التي تنازع الفصحى السيادةَ على الفكر واللسان، لدرجة أنها تصبح مثلاً يحتذى به. وتلك هي الخطورة التي تتهدّد شخصية اللغة العربية في الصميم. وهذه هي النتيجة التي يخشى اللغويون العرب من الوصول إليها، لأنها تمثّل خطراً حقيقياً على الفصحى وعلى ما تمثله من قيم ثقافية رفيعة، هي من الخصوصيات الحضارية للأمة العربية الإسلامية.

وهذه الشروط الثلاثة تتمثل اليوم في (الفصحى المعاصرة) التي تجري على سنن اللغات، فتراكيبها وصيغها جميعاً لا تستعصي على التطور، ولا هي أشياء ثابتة راسخة كالصخر الأصم، بل هي كائنات حية مثل أصحابها، فهم في تطور وتغيّر مستمرين من يوم هبوطهم في مهودهم إلى يوم استقرارهم في لحودهم، وكذلك التراكيب والصيغ في اللغة، فهي ما تني تتحرك وتتطور وتتغيّر، وهو جانب واسع جداً في الأسلوب المبسط الجديد لفصحانا المعاصرة (4).

والفصحى المعاصرة هي خلاصة التطور الذي عرفته اللغة العربية في هذا العصر، وهي اللغة (الوسطى) التي هي أعلى مستوى وأرفع مقاماً من (اللغة السيَّارة)، فهي لغة عربية تحافظ على خصائصها ومميزاتها وتراكيبها وصيغها، ولكنها لغة عربية معاصرة، بكل ما في المعاصرة من دلالات. ولذلك كانت الفصحى المعاصرة تعيش مرحلة خصبة من جميع الوجوه، إذ وسعت مضامينَ شتى من العلوم والآداب، ونفذت إلى أسلوب ميسر مبسط، من شأنه أن يساعدها على انتشارها في جميع الألسنة، وقد ظفرت بفنون كانت خاصة بالعامية. ولكنا نعرف أن الفصحى المعاصرة استولت منذ القرن الماضي على أكبر ساحة لغوية شعبية في هذا العصر (5).

والفصحى المعاصرة من هذا المنظور، هي الأمل في تطور اللغة العربية تطوراً سليماً، في هذه المرحلة التي تُهاجم فيها الهوية الثقافية والخصوصية الحضارية للأمم والشعوب، فهي لغة الإعلام والفكر والثقافة والإدارة والديبلوماسية، وهي لغة لا تنفصل عن الماضي، ولا تتنكر للتراث اللغوي، ولكنها لا تجمد عند مرحلة تاريخية من تطور اللغة، وإنما تساير المستجدات في غير ما اندفاع أو غلوّ أو تطرف، لأن التطرف في اللغة هو الانفلات من القواعد، والانقلاب على التراكيب والصيغ البيانية المقطوع بصحتها وسلامتها.

واستناداً إلى هذه المرتكزات، فنحن نرى أن الفصحى المعاصرة هي لغة الحاضر والمستقبل، وهي الردُّ الموضوعيُّ على الأخطار التي تتهدّد اللغة العربية، وهي إلى ذلك، التطور الطبيعيُّ للفصحى الأصيلة التي ضعف استعمالها في المجتمع نتيجة للأسباب والعوامل التي ذكرناها آنفاً.

وليس في هذا التركيب: (الفصحى المعاصرة)، المعنى المجرد الواحد فقط الذي يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى، وإنما فيه معانٍ كثيرة، منها ربط الفصحى بالمعاصرة، بما يستلزمه ذلك من الانخراط في العصر، والاندماج في تحولاته، والاستغراق في تياراته، وهو الأمر الذي يعني في المقام الأول الأخذَ بالنتائج التي انتهى إليها علم اللغة الحديث، والاستفادة من ابتكارات العلوم المرتبطة بفقه اللغة وعلم الأصوات. وبذلك يكون أحد المعاني التي يوحي بها مصطلح (الفصحى المعاصرة)، أنها لغة تلتزم قواعد العلم الحديث.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير