كأنيَ ما كنتَ أجهلُ جُبرانَ قَطُّ ولا (يوم مولدهِ) (**)
كنتُ أعرفُ نهراً يُقالُ لهُ الشَّطُّ
رُحْنا نطلُّ عليهِ
ونسبحُ في ضِفَتَيْ دمعتَيهِ!
وكنّا نريد العبورَ ضُحىً في ظِلالِ الهَسيسْ
ولكنما الجسرُ كانَ رؤوسَ الجَواميسْ
في قريتي تلكَ عند الشمالِ
هنالك بيتٌ وحيدٌ من الخَرَسانةِ
كانوا يُسمّونهُ القصرَ
يا طالما فوق أعتابهِ في خوالي السنينْ
صَنَعتُ ولَمّا أزلْ كائناتٍ من الطينْ!
كُنّا جميعاً كذلك ,
أثوابُنا نَفْسها كان يَلبَسُها الطينْ!
في قريتي تلكَ لا شيءَ إلاّ من الطينْ
وحليبُ الخفافيشِ في سقف كوخٍ
لجَدَّتيَ العلَويَّةِ
أسمعُهُ كالرنينْ
فكما لو سيرضَعُهُ الضوءُ حالاً
وأُمّي بفانوسها عاطرِ الضوءِ تَغمرُنا ,
خمسةٌ إخوتي ,
أربعٌ أخواتيَ ,
والناسُ أرغفةٌ لا تُجارى حرارتُهم
وكذلك أسماكُهم
فهي وقتِ الحَميَّةِ
كُلٌّ لِكُلٍّ خَدينْ!
وعند اليمين تلوحُ الإذاعهْ
وكُنّا نراها فَحَسْبُ!
فلا صوتَ غيرَ صياحِ اللقالقِ ,
ظلَّتْ لقالقُها مَعْلَماً
فهي عند الظهيرةِ ظلٌّ الينا
وفي الفجرِ تأتي مَزارِعَنا صادحاتٍ
ومنها تغارُ الديوكُ
لأنَّ مناقيرَها ما تزالُ تَتِكُّ كساعهْ!
ومن ثمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشِها الباسقاتِ
فيالَلفظاعهْ!
ويالَلمآلْ
وكم قد تنَفَّسْتُ من وحي ذاك العلُوِّ
غِنى الصَّبَأُوتِ
ومعنى الجلالْ
قريتي
لاحِنٌ في الكآبةِ
إنسانُها ,
لاحِنٌ في المَلالْ
وتلك الإذاعةُ ,
أذكرُ أنَّ أبي كان يحرسُها
هو والسُكَّريُّ العُضالْ
ولكنهُ لا يُبالي ,
ويوماً أَسَرَّ اليَّ
بأنّا جميعاً حَزانى!
لأنَّ سِوانا
لا يعرفون مباهجَنا ورِضانا!
ورُوَيداً رُوَيداً
إذا قريةُ البُسطاءْ
أفاقتْ على كهرباءْ!
أفاقتْ على عالَمَينِ
وسجنٍ مريعٍ وأقبيةٍ ومشانقْ
مُرْعِبٌ كلُّ هذا وقد زالَ , قالوا
وها انا ثانيةً صُرتُ أحصي الدقائقْ
بانتظارِ رجوعِ الصِّبا
وانتظارِ حَجيجِ اللقالقْ!
*******************************************
(*) أبو غريب: إسم القرية التي ولدتُ فيها.
(**) يوم مولدي: مقالة لجبران أثّرَتْ بنفسي كثيراً ويعتبرها العديدُ من النٌقاد واحدة من قمم أعماله النثرية
*************************
الألوية
*********
قمرٌ كعُرفِ الديكِ يرفلُ في الليالي
كسِراجِ ساحرةٍ تُدَلِّيهِ الغيومُ
وتَحتَهُ طفلٌ تناومَ في حكايات السعالي!
حتى إذا ألفيتُني أمشي وحيداً
والجميعُ مضوا لنومٍ هانيءٍ
فهناكَ الفُ حكايةٍ تُروى
وراويها خيالي
مَنْ علَّمَ الأشعارَ طبْعَ الحانةِ المِدرارَ؟
قد أصبحتُ أرشيفَ الدموعِ
وسِرَّ أسرارِ المدينةِ ,
والمدينةُ لا تُبالي
دَعْها فِدى أوهامِها
أو هَبْ أنْ إهتَزَّتْ حنيناً مثلَ فاكهةٍ
فهل يقوى الهواءُ على المَسيرِ بِبُرتُقالِ!؟
او هل تَرى يَدُكَ المُقَدَّسةُ الذي فعَلتْ بباخرتي؟
فقد رفَعَتْ رئاتي العشرَ ألويةً الى شَطِّ الفراتِ
فيا فراتُ إذنْ غَزَوتُكَ
وانتصَرْتُ بلا قِتالِ
وهنا كذلك قد غزوتُ
وطالما كانَ الشراعُ الهُدْبَ
بالأمسِ القريبِ
وكانت الأمواجُ عَينَيها
وأطيارُ السواحلِ رَفَّ نظراتٍ
تَحُطُّ على الفؤادِ
فينزوي مُتَحَرِّجاً بحرُ الشمالِ!
ولطالما طالَ الحنينُ بمُهجتي لعذابِها
فاذا العذابُ يبيتُ عنها بإنشغالِ
بِمَنْ انشغَلتَ تُرى؟
بأيَّةِ مُهجةٍ؟
اوَ لَمْ تكنْ تكفي قلاعي الشامِخاتُ ممالكاً لكَ
والجِنائنُ مسرحاً؟
فلقد عهدْتُكَ يا عذابُ مُنادِماً
تحسو مع الأنغامِ كاساتي النميرة َحَنظلاً حَدَّ الزلالِ!
العمرُ يرسلُ لي رسائلَ عن خريف العمر
أنكُرُها , أروحُ مُوقِّعاً بأصابع الأورادِ
إمعاناً بتحريف الرسائلِ
ناقِلاً ما خُطَّ من حالٍ لحال ِ
وتَطَلَّعتْ نفسي البعيدةُ للمَجيءِ
وكادَ ينضبُ بَحْرُها
حتى إذا مَرَّتْ بعُشّاقٍ
أعانوها على وَمْضِ اللآلي!
انا في المحبَّةِ لستُ بالآثارِ يوهِمْنَ الطريق بسائرٍ
قد مَرَّ يوماً من هنا
لكنني أبداً أمرُّ ولهفتي لِصقُ الحياةِ
وإنْ تَعَثَّرتِ الخُطى فيما مضى
فلسوف أنسبُ كلَّ ذلكَ للغَشاوةِ والضَلالِ!
مالي أسرِّح ظِليَ القاني ,
ومِن فوقي الشموسُ؟
فهل أريدُ به الدليلَ على انصهار الآيتَين؟
أرى ظِلالاً من شموسٍ
او شموساً من ظِلالِ
هي نصفُ عمرٍ في العراقِ
ونصفهُ الثاني يُنادمُهُ المُحاقُ
¥