ما تكلمنا فيه من مسائل نزول القرآن وغيره قضايا طرحها جمهور المفسرين لكتاب الله تعالى، وتكلموا فيها كل على حسب أصوله، فكيف يسهل على قلب مسلم أن يلقي بتهم الضلال إطلاقا ومجازفة مع افتراض علمه بنهيه صلى الله عليه وسلم أن يسم المسلم أخاه فالفسق وما ينجر عنه؟؟ فضلا عن وسم جمهرة كبيرة من علماء أهل السنة بذلك؟؟ أما إذا أخرجتهم من دائرة اهل السنة وحكمت عليهم بالضلال فذلك أمر أخطر.
واعلم أننا نشترك جميعا في إلقاء الدعاوى، مخطؤنا ومصيبنا، ويبقى البحث والتمحيص والاستدلال على صحة تلك الدعاوى من عدمها، وعند ذلك المستوى لا ينبغي رد دعوى المخالف بمجرد الادعاء بعدم العجز عن الجواب كما تفعل، بل بالتواضع وقبول سماع الراي المخالف سيما إذا طرح بأدب وتوسيع الصدر لفهمه وإجابته والبحث معه لعلك تهديه أو يهديه إلى الصواب، وإلا فلا إشكال في بقاء كل على رايه طالما احترم كل منهما الآخر وطالما لم يخرجنا الاختلاف عن دائرة المسلمين، أما الصدّ المباشر كما تفعل فليس من منهج الإسلام في شيء.
واعلم أيضا أنه قد أخطات مكاشفتك التي جعلتك تحكم بأني أريد توسيع الحوار خارج دائرة الكتاب (شرح الطحاوية للشيخ البراك)، بل لم يخطر ببالي ذلك مطلقا، إن هي إلا مسائل رأيتها تناقص نصوص بعض السلف الصالح أردت استيضاحها لا أكثر ولا أقل، وأجزم أن الحوار عليها سيكون فيه فائدة للجميع سيما إذا كان مصحوبا بحسن الأدب.
فمن التناقض مع بعض آراء السلف الصالح (وليس من كيس المتكلمين كما يقال) أن كل ما يخطر ببال الإنسان مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته فالله تعالى وصفاته في الحقيقة هو بخلاف ذلك. وسأنقل من كلام السلف الصالح كالإمام ابن سريج ما يقطع بذلك. لكن قبل ذلك أبين نقطة هامة، وهي أن ما يخطر في أذهان البشر مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته:
ـ إما مجرد اللفاظ الدالة عليه، ولا يلزم من وردها في الذهن أي تشبيه أو تكييف كما هو ظاهر.
ـ وإما خواص ذاته وصفاته تعالى كخطور أن ذاته أول لا بداية لوجوده، وآخر لا نهاية لوجوده، أو أن قدرته عامة التعلق بالإيجاد والإعدام لكل المخلوقات، وعلمه سبحانه وتعالى كاشف لكل المعلومات من غير سبق خفاء، فخطور خواص الذات والصفات لا محذور فيه ولا يلزم منه أي تشبيه أو تكييف.
ـ وإما أن يخطر بالذهن شيء متعلق بذاته تعالى كأنه في جهة دون جهة، أو ينتقل من مكان إلى مكان، أو أن يشير الإنسان إلى ذات الله تعالى بجارحة وأنه في مكان مخصوص دون مكان، أو أن يخطر في الذهن أنه يتصف بصفة هي الحرف والصوت مثلا بعد أن لم يكن متصفا بها، فهذا وأمثاله هو ما نهى عنه السلف الصالح وهو المقصود بقولهم: كل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك.
قال الإمام ابن سريج (ت 306 هـ):
قد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة والسنة والجماعة من السلف الماضين والصحابة والتابعين من الأئمة المهديين المرشدين المعروفين المشهورين إلى زماننا هذا أن جميع الآي الواردة عن الله عز وجل في ذاته وصفاته والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله وصفاته التي صححها أهل النقل وقبلها النقاد الأثبات يجب على المرء المسلم المؤمن الموقن الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله تعالى كما مر، وأن السؤال عن معانيها بدعة، والجواب عن السؤال كفر وزندقة. (29، 30).
ثم ساق جملة الآي والأخبار التي يقصدها. إلى أن قال:
وفي الآي المتشابهة في القرآن أنا نقلها ولا نردها ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، ولا نفسرها ولا نكيفها، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية، ولا نشير إليها بخواطر القلوب ولا بحركات الجوارج، بل نطلق ما أطلق الله عز وجل، ونفسر الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون والأمة المرضيون من السلف المعروفين بالدين والأمانة، ونجمع على ما أجمعوا عليه ونمسك عن ما أمسكوا عنه، ونسلم الخبر لظاهره والآي لظاهر تنزيلها. (ص47، 49) رسالة في صفات الله تعالى للإمام أحمد بن عمر بن سريج (ت 306 هـ) دراسة وتحقيق د. سعد بن علي بن محمد الشهراني، عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة جامعة أم القرى (1426هـ)
فتأمل قوله:
ـ السؤال عن معانيها بدعة.
ـ الجواب عن السؤال كفر وزندقة.
ـ لا نفسرها ولا نكيفها.
ـ لا نشير إليها بخواطر القلوب ولا بحركات الجوارح.
ثم تأمل قول الشيخ البراك في شرح العقيدة الطحاوية:
يقول بعض المتكلمين: "كل ما خطر ببالك فإن الله تعالى بخلاف ذلك"، وهذا كلام مبتدع لم يأت في نص من كتاب ولا سنة، فيجب أن يحكم عليه بحكم الألفاظ المبتدعة المجملة.
"كل ما خطر ببالك" إن أراد من الكيفيات فصحيح، والله بخلاف ذلك؛ لأن كل ما يخطر ببالك من الكيفيات فإنه راجع إلى شيء من المخلوقات، والله تعالى بخلاف ذلك (ليس كمثله شيء) [الشورى:11] فكيفية ذات الرب وكيفية صفاته لا سبيل للعباد إلى معرفتها.
أما ما خطر ببالك من أنه فوق السموات فهذا علم وحق، وليس بخاطر، ويجب الإيمان بأنه فوق السموات، وما يخطر ببالك أنه سبحانه وتعالى ينزل كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا حق، فكل ما يخطر ببالك من المعاني الثابتة فهو حق. (شرح العقيدة الطحاوية للشيخ البراك ص 45، 46)
فهل يوجد تناقض بين قول الإمام ابن سريج (ت306هـ) وبين قول الشيخ البراك (1500 هـ) كما ظهر لي؟؟؟ أم أن الخلل في فهمي فالمرجو تصحيحه، أم أن الخلل في فهم الإمام ابن سريج والواجب بيان ذلك؟؟؟
¥