وما زال الأئمة من القراء يتكاثرون مع الزمن، كما يتكاثر حَفَظَةُ القرآن وحَمَلَةُ القراءات عن الأئمة السابقين. فتعددت القراءات، وزادت طرقُها زيادة كبيرة، ولم تكفِ الكتب المؤلفة في القراءات والقراء لوقف هذا السيل المتدافع. وكان من القراء العالم العارف بوجوه القراءات وأسانيدها عن الأئمة. وكان منهم الذي لا علم له بهذه الوجوه والأسانيد، الناقص الإتقان للرواية والدراية بها. يجعله نقص علمه أن يقرأ شيئاً لم يقرأ به أحد قبله من أئمة القراء الماضين ([43]). وهذه الحال قد تفتح باباً واسعاً للفوضى، وتؤدي إلى الغلط والتغيير في قراءة كلام الله.
® ® ®
تنبّه على سوء هذا الأمر أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي، وهو عالم فذّ كبير. حفظ القرآن، وطلب العلوم، وأخذ القراءات وطرقها من شيوخها في عصره، ومعرفة روايات حروفها من زمن الرسول إلى زمنه في القرن الرابع. ورحل في سبيل ذلك إلى الأمصار، المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام، فألّف كتاباً اختار فيه قراءات سبعة من أئمة هذه الأمصار ([44])، الموثوقين المعروفين بالكِفاية والأمانة والإتقان، وهم:
1. أبو عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعَيْم المتوفى سنة 169 هـ، من المدينة؛
2. وأبو مَعْبَد عبد الله بن كَثِير الداري المتوفى سنة 120 هـ، من مكة؛
3. وأبو بكر عاصم بن بَهْدَلةَ بن أبي النَّجود المتوفى سنة 127 هـ، من الكوفة؛
4. وأبو عمادة حمزة بن حبيب الزيّات المتوفى سنة 156 هـ، من الكوفة؛
5. وأبو الحسن علي بن حمزة الكِسَائِي المتوفى سنة 189 هـ، من الكوفة؛
6. وأبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميمي المتوفى سنة 154 هـ، إمام القراء في البصرة؛
7. وأبو عِمْران عبد الله بن عامر اليَحْصُبِي المتوفى سنة 118 هـ، إمام القراء في الشام.
وهذه الأمصار الخمسة هي الينابيع الكبرى التي تفجرت فيها القراءات، وفاضت منها إلى العالم الإسلامي كله. وهؤلاء القراء السبعة الذين اختارهم هم نخبة أئمة القراءة فيها.
قال أبو بكر ابن مجاهد في أول كتابه:
اختلف الناس في القراءة، كما اختلفوا في الأحكام، ورُوِيت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين توسعة ورحمة للمسلمين. وبعض ذلك قريب من بعض. وحَمَلَة القرآن متفاضلون في حَمْله. ولِنَقَلَةِ الحروف منازل في نقل حروفه. وأنا ذاكرٌ منازلهم، ودالٌّ على الأئمة منهم، ومُخْبرٌ عن القراءة التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام، وشارح مذاهب أهل القراءة، ومبيّن اختلافهم واتفاقهم، إن شاء الله، وإياه أسأل التوفيق بمنّه ([45]).
وحقاً عرض ابن مجاهد أئمة القراء السبعة واحداً واحداً، حسب الترتيب الذي أثبتناه غير بعيد. وساق أنسابهم، وأحصى شيوخهم الذين تلقّوا عنهم القراءة، حتى وصلهم بالرسول r. وذكر الأسانيد التي وصلته بقراءة كل إمام منهم، وأوفى بكل ما تعهّد به في كلامه الذي أوردناه، وسمّى كتابه "كتاب السبعة"، وهو يريد بالسبعة أئمة القراء الذين اختارهم.
وقد أعجب المسلمون بهذا الكتاب، وقبلوه قبولاً حسناً، وارتضاه جمهور العلماء والقراء، واتفقوا على تقويمه وتعظيمه، واتبعوا قراءات هؤلاء السبعة من أئمة القراء، وأجمعوا على أنها مرويّة بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم. وحقاً كان هذا الكتاب إنجازاً فذّاً رائعاً، اصطفى فيه صاحب صفوة قراءات القرآن، ونجح بذلك في دَرْءِ خطر الفوضى، وفي دفع أسباب الاختلاف في قراءة كتاب الله العظيم، ومنع التباس الباطل بالحق، وجمع المسلمين على مَحَجَّة واحدة سَوِيّة. فاعتمده أجيال القراء، ونقلوه وقرؤوه جيلاً بعد جيل، وظل العلماء يروونه ويُقْرِئونه تلاميذهم على طول العصور المتوالية.
قال الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجَزَري، المتوفى سنة 833 هـ، في كتابه الكبير "النشر في القراءات العشر":
¥